المجتمع العربي ... وقضايا الناس

الشيخوخة تداهم المجتمعات العربية!

لم يَعُدْ النّمو السكّاني السريع يُمثّل التّحدّي الديموغرافي الأكبر الذي يواجه العالم، بل أصبحت شيخوخة السكان في العالم واحدةً من أبرز القضايا الديموغرافية والاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، وذلك نتيجة تحسّن مستوى الرعاية الصحية وارتفاع متوسط العمر، إلى جانب تراجع مُعدّلات الخصوبة. وأصبحت هذه الفئة العُمريّة تشكّل الفئة الأسرع نموًّا في العالم، إذ فاق عدد هؤلاء عدد الأطفال دون سن الخامسة عام 2018، وبحلول عام 2050 سيفوق عدد كبار السنّ عدد المراهقين والشباب (من سن 15 إلى 24 عامًا). ومن المتوقّع أن ترتفع هذه النسبة في المنطقة العربية إلى حدود 11 في المائة، ليصل عدد كبار السنّ إلى حوالي 71.5 مليون مُسنّ بحلول سنة 2050. من ذلك أيضًا أنّ دول الخليج العربي تواجه ارتفاع نسبة كبار السن نتيجة انخفاض معدّلات الخصوبة.

الشيخوخة تداهم المجتمعات العربية!

تُعتبر تونس من بين الدول العربية التي عرف فيها التحوّل الديموغرافي نسقًا أكثر سرعة، إذ تطوّر مؤشّر الشيخوخة، حيث يُحسب عدد الأشخاص البالغين 60 سنة فأكثر على عدد الأشخاص الذين تقلّ أعمارهم عن 15 سنة، من 12% سنة 1966 ليبلغ 73.9% سنة 2024، في الوقت الذي تراجعت نسبة الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن أربع سنوات من مجموع السكان من 18.53% سنة 1966 إلى 5.86% سنة 2024، ومقابل ذلك ارتفعت الشريحة العمرية من 60 سنة فما فوق في المنحى المعاكِس من 5.58% سنة 1966 إلى 16.88% سنة 2024.

يعود هذا التحوّل إلى أسبابٍ متعدّدةٍ، لعلّ من أهمها انخفاض نسبة الخصوبة، والتناقص الملحوظ في عدد عقود الزواج الذي تراجع بقرابة 25% في الفترة الممتدّة ما بين 2016 و2020، إذ بلغ عدد الزيجات 71 ألف زيجة جديدة سنة 2021، مقارنة بـ95 ألفًا سنة 2017 على سبيل المثال، وارتفاع نسق هجرة التونسيين إلى الخارج وتزايد نسب الطلاق، بالإضافة إلى انخفاض نسبة الوفيّات والتراجع الكبير على مستوى وفيّات الرضّع، وهو ما انعكس في ارتفاع معدّل الحياة عند الولادة.

يُؤثّر المستوى التعليمي وتقدّمه على الصحّة الإنجابيّة

نجد أيضًا تأخّر سنّ الزواج وارتفاع نسبة العزوبية لدى النساء اللواتي ينتمين إلى الفئات العمرية عالية الخصوبة، ما بين سن العشرين و35 سنة، وهو ما يعني تجاوز سن ذروة الخصوبة لدى المرأة والتي تتراوح ما بين سن الـ25 سنة والـ35 سنة. وعمليًا، إذا تزوجت الفتاة في سن الـ38 أو الـ40 سنة فإنّها غالبًا لن تكون بحاجةٍ إلى استعمال وسائل منع الحمل، باعتبار أنّ جهودها وأهدافها سترتكز على الإنجاب وليس على تفاديه.

تراجعت نسبة النموّ الديموغرافي لأوّل مرة عن 1%، لتبلغ سنة 2024 نسبة 0.87 % بعد أن كانت قبل ثلاثين سنة 2.35%، وذلك نتيجةً أيضًا لاستخدام وسائل منع الحمل الحديثة، لكنّ عددًا من الأطبّاء يُرجعون ذلك بالأساس إلى تأخّر سنّ الزّواج لدى التونسيات حيث أصبحت نسبةً مهمةً منهنّ يتزوّجن بعد سن الـ35 سنة. كما يُؤثّر المستوى التعليمي وتقدّمه على الصحّة الإنجابيّة، فكلّما ارتفع المستوى التعليمي، انخفضت نسبة الخصوبة بين الأمّهات ذوات مستوى التعليم العالي مقارنةً بمثيلتها المسجّلة لدى الأمّهات ذوات التعليم الأدنى أو الأمّيات، والتي بلغت قرابة الأربعة أطفال حينذاك.

تناقص القوى العاملة التي تجاهد لدعم الأعداد المتزايدة من المتقاعدين

ومن العوامل الأساسية التي ساهمت في هذا الوضع اعتماد سياسة التنظيم العائلي من قبل الدولة التونسية (1966)، وهي سياسة فريدة في العالمَيْن العربي والإسلامي وكان هدفها تنظيم النسل، وتحديد النموّ السكاني، ومكافحة الفقر، إذ تمّ إصدار قوانين منها تشريع الإجهاض وجعله قانونيًّا عام 1973 وحقّ المرأة في اختيار طرق تحديد النسل (1976). كما عملت الدولة منذ ذلك التاريخ من خلال "مؤسّسة الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري" على توفير وسائل منع الحمل وتقديم المشورة والتوعية، الأمر الذي جنّب (برنامج تحديد النسل والصحة الإنجابية المعتمد في مجال التخطيط السكاني والتحكّم في الخصوبة) البلاد إمكانية تضاعف عدد السكان بمعدّلات قد تصل إلى سبع مرات.

وتفيد بحوث علمية ديموغرافية بأنّه عِوَض أن يتضاعف عدد سكان الدولة التونسيّة مرّتَيْن ونصف وينتقل من 4 ملايين ونصف المليون نسمة سنة 1966 كان يمكن أن يبلغ حدود 30 مليون نسمة، لكنّه أدّى إلى استقرار عدد السكّان على مدى عقود في مستويات تتراوح ما بين 10 و12 مليون نسمة.

لإعادة النظر في السياسات التنموية والديموغرافية بشكل استراتيجيّ

وتُنذر هذه التحوّلات بمجموعةٍ هائلةٍ من التحدّيات الصحيّة والاجتماعية والاقتصادية في العقود المقبلة، ومنها التراجع الحادّ في حجم السكّان وتناقص القوى العاملة التي تجاهد لدعم الأعداد المتزايدة من المتقاعدين، وما يصاحب ذلك من زيادة حادّة في معدّلات الإصابة بالأمراض ذات العلاقة بتقدّم العمر وتكاليف الرّعاية الصحيّة المرتبطة بها، وتدهور جودة الحياة بين كبار السنّ بسبب الافتقار إلى الموارد البشريّة والماليّة والمؤسّسية، واضطرار الفئة السكّانية النّشيطة في سوق العمل إلى إعالة عدد أكبر من غير النّاشطين. كما أنّ تزايد نسبة التهرّم يؤدّي إلى ارتفاع مؤشّر الإعالة الديموغرافية لكبار السنّ، وهو ما نلاحظه منذ سنوات في ما تعانيه الصناديق الاجتماعيّة من مشاكل (بالإضافة إلى عوامل أخرى) والإنفاق لمدى زمني أطول في مجال التّقاعد إلى جانب تكاليف الرعاية الصحية للمسنّين.

ولا شكّ أنّ تجاوز هذه المشكلات يتطلّب إعادة النظر في السياسات التنموية والديموغرافية بشكلٍ شاملٍ واستراتيجيّ، من ذلك تعديل نُظمِ التّعليم والرّعاية الصحيّة والحماية الاجتماعية من أجل توفير شبكة أمان عامة لهذه الفئة العمريّة الآخذة في النموّ. وكذلك، الاستثمار في خدمات الرّعاية الصحيّة المُبتكرة، مثل الرعاية المنزليّة وتقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة التشخيص والعلاج، الأمر الذي قد يخفّف من الأعباء على النظام الصحي ويضمن جودة حياة أفضل لكبار السن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن