بصمات

عن عبد الناصر وتجربته (1/2)

في 15 يناير/كانون الثاني من كل عام، وهو ميلاد جمال عبد الناصر، وكذلك في 28 سبتمبر/أيلول ذكرى وفاته عام 1970، قبل 55 سنة، تظهر في الصحف مقالات يُبرز بعضها إنجازات الرجل وفرادته وزعامته، فيما تذهب مقالات أخرى مضادّة إلى إدانة تجربته برمّتها. ولا شكّ أنّ المدح المُفرط مثل الذّم المبالَغ فيه، لا يعكس الحقيقة بقدر ما يعبّر عن المشاعر والمواقف المُسبقة.

عن عبد الناصر وتجربته (1/2)

ليست هذه المقالة إعادة نظر شاملة بتجربة عبد الناصر فهذا الأمر يحتاج إلى دراسةٍ موسّعةٍ ليس هنا مجالها، ولكن لإظهار وإبراز الخطوط العريضة والإشارة إلى أنّ أيّ تجربة يمكنها أن تنطوي على جوانب متناقضة تتراوح ما بين الإيجاب والسلب. وفي جميع الأحوال، فإنّ التاريخ المصري والتاريخ العربي الحديث لم يعرف شخصيةً مماثلةً، خصوصًا أنّ زعامته تخطّت حدود مصر لتشمل كلّ العالم العربي من المحيط إلى الخليج، كما يُقال.

ويمكن النظر إلى عبد الناصر من زوايا مختلفة. فقد كان شخصيةً دوليةً ذات صيت عالميّ، كما كان زعيمًا عربيًا لم يحظَ أحد من الرؤساء العرب بالشعبية التي حَظِيَ بها. كما كان رئيسًا لمصر حقّق إنجازات كبرى وارتكب أخطاء فادحة.

السياسة التي اتّبعها في سوريا تُفسِّر إلى حد بعيد فهمه لدوره العربي

وإذا رجعنا إلى كتاب "فلسفة الثورة" لعبد الناصر الذي صدر بعد عامَيْن على ثورة "الضباط الأحرار" عام 1952، نستطيع أن نفهم أفكار عبد الناصر في وقتٍ مُبكّرٍ، فهو ينظر إلى مركزية دور مصر وأهمّيتها، ويرى أنّ لمصر دورًا أساسيًا تعمل من أجله بحكم انتمائها إلى العالم العربي، ثم إلى القارة الأفريقية، ثم إلى العالم الإسلامي. لنجد بعد ذلك أنّه قد عمل فعلًا من أجل وحدة العالم العربي، ومن أجل حركات التحرّر الأفريقية. أمّا العالم الإسلامي، فإنّ عبد الناصر قد استبدل ذلك بدورٍ أوسعٍ وهو انضمامه إلى "دول عدم الانحياز" فصار أحد أبرز زعماء هذه الحركة.

هذا الموقع الذي احتلّه منذ مشاركته في "مؤتمر باندونغ" عام 1955، إلى جانب الرئيس الهندي جواهر لال نهرو والرئيس اليوغوسلافي جوزيف تيتو، جعله أحد قادة العالم الثالث، فإذا أضفنا إلى ذلك دوره في حركات التحرّر الأفريقية، فإنّ عبد الناصر أصبح أحد الزعماء العالميين. وبوقوفه إلى جانب المعسكر الاشتراكي إبّان الحرب الباردة، فإنّه حاز على دعم سوفياتي في المجالات العسكرية والمدنية، وخصوصًا الدعم الذي تلقّته مصر من الاتحاد السوفياتي في بناء "السد العالي". وعلى هذا النحو، أصبح عبد الناصر زعيمًا عالميًا يتحدّى الغرب في خطاباته التي يستمع إليها الملايين من العرب.

حربه المفتوحة مع المملكة العربية السعودية أدّت إلى استنزاف مصر وكان ذلك بداية الشقاق العربي

بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إثر إعلان عبد الناصر تأميم قناة السويس، هذا العدوان الذي ضمّ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل والذي كان يستهدف إسقاط عبد الناصر وزعامته، فشل في مهمّته، الأمر الذي جعل من عبد الناصر الصامد في وجه العدوان، زعيمًا عربيّا. فلأوّل مرة في التاريخ الحديث، يتمكّن زعيم عربي من الوقوف في وجه تحالفٍ غربيّ مُتحدّيًا، الأمر الذي رفع من شعبيّته فصار مناصروه ينتشرون في كلّ البلدان العربية. هذه المكانة التي أحرزها عبد الناصر دفعت السوريين المُحاصرين بحلف بغداد إلى الاستنجاد به، فأُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وأصبحت الوحدة الشاملة شعار المرحلة، وأن الوحدة المصرية - السورية، هي مقدّمة لدولة الوحدة العربية. وفي الوقت نفسه الذي كان عبد الناصر يدعم فيه الثورة الجزائرية، كانت مصر تدعم جنوب اليمن ضدّ الاستعمار الإنكليزي. وقد ارتفعت شعبية عبد الناصر في تلك السنوات إلى الذروة وصولًا إلى انقلاب الانفصال في سوريا عام 1961.

لقد اتُّهِم الانفصاليون في سوريا بشتّى التهم. ولكنّنا الآن ندرك أنّ السياسة التي اتّبعها عبد الناصر في سوريا، وهو الذي لم يعرف سوريا، باعتبارها محافظةً مصريةً يحكمها بواسطة ضابط مخابرات، تُفسِّر إلى حدٍّ بعيدٍ فهمه لدوره العربي. فنجده في سياساته العربية يدخل في صراعاتٍ شخصيةٍ في بعض الأحيان مع أولئك الذين لا يوافقونه في سياسته، وعلى هذا النحو خاصم ملك الأردن وعبد الكريم قاسم في العراق، وحزب البعث (خصوصًا في فترة رئاسة أمين الحافظ)، ثم بورقيبة في تونس. وإذ اعتبر أنّ الانقلاب في اليمن ضدّ نظام الإمامة هو انتصار له، فإنّ دعمه للنظام الجمهوري في اليمن الشمالي قد جرّه إلى حربٍ مفتوحةٍ مع المملكة العربية السعودية، أدّت إلى استنزاف مصر وجيشها. وكان ذلك بداية الشقاق العربي بين معسكرَيْن أو اتجاهَيْن.

ما زال العرب يدفعون أثمان هزيمة 67 إلى اليوم

لم يصرّح عبد الناصر بأنّه يريد تحرير فلسطين في أيّ من خطبه، ولكنّ نبرته العالية ضد الولايات المتحدة الأميركية والغرب عامةً أدخلت لدى مؤيّدي زعامته اليقين بأنّه القادر على مقارعة إسرائيل، وخصوصًا في استعراضه لصواريخ "القاهر" و"الظافر" عام 1966. ولا شكّ أنّ سلوكه في مايو/أيار 1967 وإقفاله المعابر أمام إسرائيل في سياسةٍ تصعيديةٍ من أجل التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية قد قدّم الفرصة للإطاحة بجيشه واحتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفّة الغربية في فلسطين. كشفت الهزيمة الضعف العربي الذي يُعوِّض الضعف بالشعارات الصاخبة والعالية النبرة. وإذا كنّا نريد أن نوزّع المسؤوليات عن الهزيمة، فإنّ مسؤوليته تبقى الأكبر نظرًا للآمال المعقودة على زعامته، والتحدّيات اللفظية التي كان يُطلقها. هذه الهزيمة التي ما زال العرب يدفعون أثمانها إلى اليوم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن