تقدير موقف

"حلّ الدولتَيْن": الرؤية الإسرائيلية والخيارات العربية!

"أي صورة ستكون لك يا ولدي إذا كانت مقطوعة الرأس؟! هل هذا منظرك الطبيعي؟ وهل سيتطلّع الجيل الشاب إلى رقعة أرض مُنشطرة، إلى جسدٍ مبتور الأعضاء؟!".. تلك مقولة بنيامين بوزننسكي (Ben Poznanski) من مؤسّسي حركة الشباب الصهيوني قالها عام 1926، وهي مقولة تُبلور الفكر السياسي الصهيوني منذ تيودور هرتزل وحتّى بنيامين نتنياهو، والتي ترى الحقّ التاريخي الأبدي لليهود في أرض فلسطين بالكامل.

منذ اندلاع الصراع العربي - الإسرائيلي في منتصف القرن العشرين، ظلّ موضوع "حلّ الدولتَيْن" حاضرًا في النقاشات السياسية والديبلوماسية باعتباره أحد المسارات المطروحة لإنهاء النزاع. إلّا أنّ الرؤى حول هذا الحلّ اختلفت جذريًا بين الجانب الإسرائيلي والجانب العربي، حيث تعامل كلّ طرف معه وفقًا لمصالحه الاستراتيجية وأهدافه السياسية.

الجذور التاريخية لفكرة "حلّ الدولتَيْن"

تعود فكرة تقسيم فلسطين إلى ما قبل قيام إسرائيل عام 1948، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181 في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، الذي نصّ على تقسيم فلسطين إلى دولتَيْن: يهودية وعربية، مع تدويل القدس. رفض العرب آنذاك القرار باعتباره ظلمًا تاريخيًا وانتقاصًا من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، بينما قبلته الحركة الصهيونية، وإنْ كان قبولًا تكتيكيًا لتحقيق الهدف الأكبر: إقامة الدولة اليهودية على أكبر مساحة ممكنة.

عملت إسرائيل على تفريغ الفكرة من مضمونها ما جعل قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا شبه مستحيل

بعد حرب 1948 وقيام إسرائيل، وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، بدا واضحًا أنّ ميزان القوى قد اختلّ لصالح المشروع الصهيوني. ومع حرب حزيران/يونيو 1967، سيطرت إسرائيل على الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ما جعل مسألة "الأراضي المُحتلة" محورًا لأي حديث لاحق عن "حلّ الدولتَيْن".

الرؤية الإسرائيلية لـ"حلّ الدولتَيْن"

لم تتعامل الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة مع فكرة "حلّ الدولتَيْن" بوصفها خيارًا استراتيجيًا لتحقيق السلام، بل نظرت إليها في الغالب كأداةٍ تكتيكيةٍ لتحسين صورتها أمام العالم الغربي وامتصاص الضغوط الدولية.

فمنذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي فتحت الباب أمام الحديث عن دولةٍ فلسطينيةٍ على حدود 1967، عملت إسرائيل على تفريغ الفكرة من مضمونها عبر التوسّع في الاستيطان في الضفّة الغربية والقدس الشرقية بشكلٍ ممنهج، الأمر الذي جعل قيام دولةٍ فلسطينيةٍ متصلةٍ جغرافيًا أمرًا شبه مستحيل.

كما سعت إسرائيل إلى فرض وقائع جديدة على الأرض من خلال بناء الجدار العازل عام 2002 وتقطيع أوصال الضفّة الغربية، إلى جانب استخدامها المناورة السياسية، بحيث أعلنت بعض الحكومات الإسرائيلية، مثل حكومة إيهود أولمرت عام 2007، استعدادها الشكلي للحديث عن دولتَيْن، في حين اتجهت حكومات بنيامين نتنياهو المُتعاقبة إلى نسف الفكرة علنًا برفض أي انسحاب كامل من الأراضي المحتلة والتشديد على مفهوم "يهوديّة الدولة".

لا مجال لـ"حلّ الدولتين" في الفكر السياسي الصهيوني

ومن ثمّ يتّضح أنّ الموقف الإسرائيلي ينطلق من مبدأ إدارة الصراع لا حلّه، ورفض أي دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية، إذ إنّ أقصى ما تطرحه إسرائيل هو كيان منزوع السلاح يخضع بالكامل لسيطرتها الأمنية.

"أرض إسرائيل الكاملة"

وتُسيطر فكرة "أرض إسرائيل الكاملة" على الأحزاب اليمينية والدينية (مثل الليكود، الصهيونية الدينية) والتيّارات الاستيطانية كافّة، والتي تضمّ فلسطين وكلّ سيناء والأردن وسوريا ولبنان، بل وأجزاء من تركيا وقبرص وما خفي أعظم. وضمّ كلّ تلك الأراضي إلى دولة إسرائيل في الفكر السياسي الصهيوني هو ضرورة حتمية للمحافظة على أمن إسرائيل. وكلّ ذلك، لن يتحقّق في نظام حكمٍ "ثنائي القومية" وبالتالي لا مجال لـ"حلّ الدولتين" في الفكر السياسي الصهيوني. وقد عبّر عن ذلك يتسحاق تابنكين (Yitzhak Tabenkin) قائلًا إنّ هدف المشروع الصهيوني يتمثّل في "أرض إسرائيل الكاملة" بحدودها الطبيعيّة القديمة من البحر المتوسط حتى الصحراء ومن جبل لبنان حتى البحر الأحمر، باعتبارها الوطن المُتجدّد للشعب اليهودي، وانطلاقًا من الحبّ الطبيعي للأرض!.

فرص العرب في إنجاح "حلّ الدولتَيْن"

على الرَّغم من الغطرسة الإسرائيلية ورفضها المستمرّ لفكرة "حلّ الدولتَيْن"، لا تزال أمام العرب وسائل عدّة يمكن أن تعزّز فرص تطبيق هذا الحلّ. فإحدى أهمّ هذه الوسائل هي توظيف الشرعية الدولية، إذ تشكّل القرارات الأممية مثل القرار 181 والقرار 242 والقرار 338 سندًا قانونيًا قويًا يمكن الاستناد إليه لإدانة السياسات الإسرائيلية ومطالبتها بالانسحاب من الأراضي المحتلّة. كما أنّ العمل الديبلوماسي الموحّد يمثّل أداةً حيوية، من خلال ممارسة الضغط عبر المؤسّسات الدولية كالأمم المتّحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

وإلى جانب ذلك، يظلّ سلاح المقاطعة الاقتصادية خيارًا مؤثّرًا، فقد أثبتت حركة المقاطعة (BDS) قدرتها على إلحاق الضرر بالشركات الداعمة للاستيطان، وهو ما يمكن تعزيزه عربيًا وإسلاميًا لتحقيق المزيد من الفاعلية.

مواجهة الرفض الإسرائيلي يتطلّب رؤية عربية استراتيجية موحّدةً مع موقف فلسطيني موحّد

وتبرز أيضًا ضرورة المصالحة الفلسطينية الداخلية، إذ إنّ الانقسام بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة يُستغلّ إسرائيليًا كذريعةٍ لرفض أي حلّ سياسيّ شامل. أمّا إعادة صياغة الخطاب العربي فتعدّ خطوةً لا تقلّ أهمية، إذ تُعيد التأكيد على أنّ قبول "حلّ الدولتَيْن" لا يعني تنازلًا عن الحقوق التاريخية، بل هو محاولة لإنهاء الاحتلال وفق أسس الشرعية الدولية.

يتّضح أنّ "حلّ الدولتَيْن" ظلّ رهينة التوازنات السياسية ومناورات إسرائيل التي لا ترى فيه إلّا وسيلة لكسب الوقت، بينما العرب، على الرَّغم من قبولهم التدريجي، لم يمتلكوا حتى الآن أدوات ضغط كافية لفرض هذا الحلّ. إنّ نجاح العرب في مواجهة الرفض الإسرائيلي يتطلّب رؤيةً استراتيجيةً موحّدةً، تقوم على الجمع بين الديبلوماسية والقوة الناعمة والمقاطعة، مع إعادة الاعتبار لقوة الموقف الفلسطيني الموحّد. فمِن دون ذلك، ستبقى فكرة الدولتَيْن معلّقةً بين الرفض الإسرائيلي والعجز العربي، بينما تتآكل الأرض الفلسطينية يومًا بعد يوم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن