بدأت ملامح علوم الهندسة الحيوية تبرز في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما فهم العلماء تركيب الجينات وآليات انتقال الصفات الوراثية. وفي سبعينيّات القرن الماضي، حدثت الطفرة الكبيرة حين نجح العلماء في نقل الجينات من كائنٍ إلى آخر، مُمهّدين الطريق لإنتاج أوّل نباتاتٍ معدّلةٍ وراثيًا تستطيع التغلّب على العديد من المشاكل البيئية مثل نُدرة المياه والتصحّر والآفات، ممّا ساهم في تغيير ملامح الزراعة التقليدية إلى زراعةٍ أكثر كفاءةً وذكاء.
للهندسة الحيوية دور هائل في تطوير بدائل جديدة لتقنيات التصنيع الغذائي
فقد أسهمت الهندسة الحيوية في تطوير محاصيل مُهندَسة وراثيًا ذات إنتاجيّة مرتفعة وجودة محسّنة تتميّز بقدرتها على النموّ في الظروف البيئية كافّة، وتتحمّل النقص في المياه وارتفاع درجات الحرارة ومقاومة الآفات والأمراض من دون الحاجة إلى المُبيدات الكيميائية الضارّة بالبيئة والإنسان، بالإضافة إلى تحسين كفاءة استخدام مياه الريّ، ممّا يتيح الفرصة لزراعة مساحاتٍ شاسعةٍ من المناطق الصحراوية.
كما تمكّنت الهندسة الحيوية من إنتاج أسمدةٍ حيويةٍ ذات كفاءةٍ عاليةٍ تعتمد على استغلال المُخلّفات الزراعية الملوّثة للبيئة، باستخدام أنواع مختلفة من البكتيريا النافعة والكائنات الحيّة الدقيقة التي تُنتج أسمدةً تتميّز بقدرتها الفائقة على زيادة خصوبة التربة (وهذا مهم جدًّا في الأراضي الصحراوية الشاسعة في العالم العربي)، وتحفيز نموّ النباتات وزيادة إنتاجيّتها من دون التعرّض للتأثيرات السلبية التي تُسبّبها الأسمدة الكيميائية.
وأسهمت الهندسة الحيوية أيضًا في استحداث نُظم الزراعة الدقيقة التي تعتمد على تحليل البيانات الجينيّة والصفات الوراثيّة لكلّ محصول بهدف تحديد الاحتياجات الفعلية من المياه والأسمدة والمُبيدات، ممّا يوفّر من تكلفة العملية الإنتاجية ويجعلها أكثر فاعليةٍ من دون إسرافٍ أو نقص.
كما تُعنى الهندسة الحيوية بزراعة الأنسجة النباتية لإكثار النباتات النادرة أو إنتاج شتلاتٍ مقاوِمةٍ للأمراض، بالإضافة إلى تطوير لقاحات تُحفّز مناعة النباتات ضدّ الأمراض وتُحسّن قدرتها على امتصاص العناصر الغذائية، وذلك باستخدام أنواع مُنتقاة من البكتيريا والفطريّات النافعة.
وللهندسة الحيوية دور هائل في تطوير بدائل جديدة لتقنيات التصنيع الغذائي والتي من أهمّها استخدام أنواع جديدة من الإنزيمات الطبيعيّة لتحسين نكهة وكفاءة هضم الكثير من المنتجات الغذائية، ومعظم تلك الإنزيمات يتمّ إنتاجها باستخدام كائناتٍ دقيقةٍ مُعدّلةٍ وراثيّا، بالإضافة إلى استحداث طرقٍ جديدةٍ لعمليات التخمير وإنتاج الإضافات الغذائية والفيتامينات ومضادّات الأكسدة التي تدعم فوائد الأغذية الصحية وتحسّن من جودتها وتُطيل فترات التخزين الآمن لها، من دون الحاجة إلى المواد الحافظة الكيميائية التي تقلّل من فرص تصديرها إلى الأسواق العالمية.
الهندسة الحيوية قادرة على معالجة المشكلات والتحدّيات التي تواجه الزراعة في الأراضي الصحراوية والجافة
وهناك مسارٌ آخرٌ مهمٌ للهندسة الحيوية التي عزّزت عوامل الأمان لكلّ من النبات والتربة والإنسان ووضعت حلولًا ابتكاريةً للتغلّب على الآثار الجانبية الضارّة للتقنيات الزراعية. فعلى سبيل المثال، قام علماء الهندسة الحيوية بأبحاثٍ وضعت التوصيات اللازمة لاستخدام الميكنة الزراعية بطرقٍ غير ضارّةٍ بالعمالة أو البيئة.
وعلى الرَّغم من آفاق الهندسة الحيوية الكبيرة، فإنّ الفجوة التكنولوجية بين الدول المتقدمة والنامية ما زالت تمثل تحدّيًا أمام تعميم الاستفادة منها.
وتمثّل الهندسة الحيوية أهميةً خاصةً للدول العربية لأنّها قادرة على معالجة المشكلات والتحدّيات التي تواجه الزراعة في الأراضي الصحراوية والجافة المنتشرة في المنطقة.
ولقد اهتمّت بعض الدول العربية بتكنولوجيا الهندسة الحيوية ووضعتها ضمن رؤيتها المستقبلية للتنمية الزراعية، وقامت بإجراء العديد من البحوث لحالات زراعة الأنسجة وتحسين الأصناف ومقاومة الآفات والأمراض الزراعية وإنتاج الأسمدة الحيوية. كما اهتمّت بتدريب الكوادر العلمية المتخصّصة وذلك من خلال إنشاء العديد من أقسام الهندسة الحيوية في كليات الزراعة والمراكز البحثيّة، مع إعداد سياساتٍ وطنيةٍ نشطةٍ لتشجيع البحث والابتكار، بالإضافة إلى تكثيف الاستثمارات في البنية التحتية والمختبرات لتكون قادرةً على إيجاد حلول تطبيقية للمشاكل المحلية.
وفي هذا الإطار، قامت "الجمعية المصرية للزراعة الحيوية" (EBD) بتجارب ناجحة لمعالجة تربةٍ مالحةٍ تصل ملوحتها إلى نصف ملوحة مياه البحر، وذلك باستخدام أنواعٍ من البكتيريا ساهمت في زراعة أراضٍ شديدة الملوحة بسلالات محاصيل أكثر تكيّفًا مع هذه الظروف القاسية تمّ استنباطها بدورها من خلال الهندسة الحيوية.
الاستثمار في التكنولوجيا الحيوية هو استثمار في مستقبل الأجيال القادمة
كما استنبطت السعودية محاصيل مقاوِمةً للجفاف من خلال البحوث في علم "الجينوم" والتقنية الحيوية، واستخدمت الدلائل الجُزَيْئِيَة لانتخاب محاصيل مقاوِمة للآفات والحشرات، ممّا يعطي آفاقًا مستقبليةً لزراعة مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي الصحراوية والمالحة. واستخدمت الإمارات علوم الهندسة الحيوية في التخلص من "سوسة النخيل" بواسطة التحرير الجيني للنخيل، كما قامت بتعديل بعض الأشجار جينيًّا لإنتاج فواكه بلا بذور. وفي كلّ من تونس والمغرب، تم استنباط أصناف عالية الإنتاجية من نخيل التمر وأعلاف بديلة من الطحالب والبكتيريا عبر الهندسة الحيوية.
إنّ مستقبل التكنولوجيا الحيوية في العالم العربي يجب أن يكون عبر مشروع تنموي شامل يهدف إلى زيادة الرقعة الزراعية في المناطق الصحراوية والأراضي عالية الملوحة، ممّا يستلزم إقامة شراكة بين الحكومات العربية والقطاع الخاص والمراكز البحثية والمجتمع المدني، وكذلك شراكة بين الدول العربية سواء بشكلٍ ثنائيّ أو عبر المنظمات العربية المتخصّصة مثل "المنظمة العربية للتنمية الزراعية" و"المركز العربي لدراسات المناطق الجافّة والأراضي القاحلة" (أكساد) لأنّ الاستثمار في هذا المجال ليس فقط استثمارًا علميًا، بل هو استثمار في مستقبل الأجيال القادمة لأنّه يُتيح استصلاح مساحاتٍ هائلةٍ من الأراضي الجافّة والصحراوية في المنطقة، وكذلك زيادة الإنتاجية في الأراضي القديمة بما يحقّق نهضةً زراعيةً عربيةً تسهم في سدّ الفجوة الغذائية الخطيرة في المنطقة العربية.
(خاص "عروبة 22")