بصمات

لماذا تستفحل أزمات العالم العربي وتتفاقم؟

لئن بحث بول كروغمان عن أسباب تكرُّر الأزمات الاقتصادية العالمية من وجهةٍ تقنيةٍ اقتصاديةٍ مثل طبيعة النظام الرأسمالي وترابط الأسواق العالمية والسياسات الاقتصادية، فإنّه أشار إلى تأثير العوامل النفسية مثل الخوف والطمع. فعند شعور المُضاربين في الأسواق المالية بالخوف وعدم الاطمئنان، يحدث انكماش أو تذبذب في البورصات. وهذا يعني أنّه حتّى في مجال علم الاقتصاد يظلّ تأثير الجانب الوجداني والعاطفي قائمًا.

لماذا تستفحل أزمات العالم العربي وتتفاقم؟

ندرك عند النظر في طبيعة أزمات العالم العربي طبيعتها البنيوية العميقة. فهي ناجمة عن تلكّؤ وتردّد مزمنَيْن في حسم عديد الخيارات الضرورية. فعلى سبيل الذكر، ما زالت جلّ الدول العربية لم تحسم نهائيًا طبيعة الدولة فيها، إذ ظلّت "دولةً هجينةً" تجمع في نشازٍ بين مرجعيتَيْن ما من تنائيهما بدّ: مرجعية حديثة لا تتجاوز السطح والقشرة متأتّية من محاولاتٍ لاستنساخ النموذج الغربي، ومرجعية رثّة تمتدّ جذورها إلى دولة الأحكام السلطانية القائمة على الشوكة وجدع الأنف والعصبية. وقد أفضى ذلك الجمع العجيب إلى مفارقاتٍ كثيرةٍ أهدرت كلّ إمكانيات تحقيق النهوض الحضاري المأمول. وهذا على عكس ما حدث في بعض الدول المجاورة للعالم العربي. فمثلًا تركيا أفضى حسمها النهائي في اختيار النظام العِلماني إلى مراكمة المنجزات وقيم الجمهورية، لذا انصرفت مختلف القوى فيها إلى معالجة القضايا الحقيقية مثل التنمية والعلاقات الاستراتيجية والتمدّد في العمق الإقليمي ضمن مشروع قومي طوراني جامع.

ما صنعه العرب بأنفسهم لا يقلّ فداحةً وخطورةً عن الجرائم الاستعمارية والإمبريالية

إذا أضفنا إلى ذلك الطابع المُركّب لتلك الأزمات العربية بحكم عدم اقتصارها على مجالٍ من دون آخر سواء في مختلف المجالات الحيوية أو في بقية المجالات الهامشية، تبرز بوادر ضعف الإرادة والقدرات في معالجة تلك الأزمات. وقد لا يكون من المبالغة القول بوجود شكلٍ من أشكال الاستثمار فيها، إذ يبدو واضحًا أنّ عدم استقرار الأوضاع واستغلال المخاطر الأمنية يختصر طرق الوصول إلى السلطة والتحكّم فيها. يكفي في هذا الصدد مراجعة بعض التقارير الدولية ومذكّرات السياسيين لفهم طريقة الاستثمار في الأزمات. ففي تونس مثلًا، كان التخويف من خطورة الإسلاميين ورقةً رابحةً اعتمدها الجنرال بن علي للتقرّب من الرئيس الحبيب بورقيبة ثم الانقلاب عليه يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 بعد شهر فقط من تعيينه وزيرًا أوّل.

بقدر ما لا يمكن إنكار تأثير العوامل الخارجية في تفاقم الأزمات العربية، فإنّ ما صنعه العرب بأنفسهم لا يقلّ فداحةً وخطورةً عن الجرائم الاستعمارية والإمبريالية. إذ في الوقت الذي كان يتعيّن فيه معالجة تلك الأزمات معالجةً جذريةً حاسمةً، وقع التراخي باجترار الطرق العقيمة نفسها القائمة على جعجعةٍ خطابيةٍ لا يتجاوز مفعولها دور المُسكّنات الوقتيّة المُلهبة للأحاسيس والمشاعر. يكفي في هذا المضمار التذكير بالمآل المأساوي الذي انتهت إليه القضية الفلسطينية في مختلف مساراتها السياسية والميدانية، إلى حدٍّ دُمّرت فيه جلّ إمكانات قيام دولة فلسطينية في حدود 1967.

لإعادة بناء المجال العمومي على أسُسٍ صلبة تقطع مع الحلول الملغومة القائمة على اختلاق الأزمات وتصديرها

لا يمكن أن ينجح العالم العربي في تجاوز أزماته من دون تجاوز الطابعَيْن التهويلي والتهويني معًا المتعلّقَيْن بطرق التعامل مع تلك الأزمات. فالأزمة مهما كانت حدّتها ليست إلاّ مرحلةً في دورة الحضارات، ومن ثمّ فإنّ فرص معالجتها تظلّ قائمةً في صورة توفّر مجموعةً من الشروط لعلّ من أهمّها إعطاء كلّ أزمة ما تستحقّ من الاهتمام حسب طبيعتها ونوعيّتها، وتكليف الكفاءات الحقيقية بتدبّرها من دون إغفال عناصر التقاطع بين مختلف الأزمات. وهذا يقتضي تحديد الرؤية السياسية المُعتمدة في معالجتها بما أنّ الرؤية الواضحة تعدّ بوصلةً صالحةً في تحديد السياسات العامة والآليات المُعتمدة لتحقيقها والأهداف المنتظرة منها.

لقد أثبتت تجارب مختلف الدول العربية عُقم الخيارات القائمة على استيراد النماذج الجاهزة في حلّ مختلف القضايا، لذا فإنّ التركيز على استنباط الحلول من رحم تلك الأزمات يُشكّل خيارًا ضروريّا. وهو ما يستدعي من مختلف النخب مراجعاتٍ جذريةً لمرجعيّاتها وأدبيّاتها التأسيسية عسى أن يسهم ذلك في إعادة بناء المجال العمومي على أسُسٍ صلبةٍ متينةٍ تقطع مع الحلول الملغومة القائمة على اختلاق الأزمات وتصديرها. فما أكثر التجارب التاريخية التي تُثبت استحالة وجود أزمة بلا حلّ، إذا تزامن توفّر الإرادة السياسية الجادّة مع بناء قدرات تحقيقها. يكفي في هذا الإطار الاطّلاع على التجربة الماليزية مع "مهاتير محمد" للمقارنة والاستئناس.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن