لعلّ أخطر الوقائع استمرار الانقسام الكِياني، حيث لم تستطع الحكومة على الرَّغم من مرور عشرة أشهر على إسقاط نظام الأسد، تحقيق تقدّمٍ على طريق استعادة وحدة سوريا. وثاني الأخطار يتمثّل في تدهور الأوضاع الأمنية، ليس على مستوى المناطق، كما حدث في السويداء وحلب، وما يحدث في الساحل منذ أيام، إنّما في أحداثٍ تجري داخل المناطق على شكل أعمالٍ "محدودةٍ" و"فرديةٍ"، تضمّنت قتل واختفاء أشخاص وجرائم سطو، حدث بعضها في دمشق، حيث مركز السلطة وقوتها الرئيسية وفي مدنٍ أخرى. وثالث الوقائع يبدو في تصاعد النزعات الطائفية والعنصرية، وتكريس انقسام السوريين إلى "مكوّناتٍ" لا يجمعها ولا يقاربها أيّ مشترك، وهذه ظاهرة لم تكن شائعةً، بل يُمكن القول إنّها لم تكن ظاهرةً في حياة السوريين سابقًا.
وتستمدّ الوقائع الثلاثة السابقة أساسَها من عوامل داخلية - خارجية، وأهم العوامل الداخلية دور وأعمال فلول نظام الأسد الذين لا يقتصر وجودهم على الساحل السوري وفق ما يجري القول، بل هم موجودون في كلّ المناطق، ومثلهم بعض من أنصار النظام السابق الموزّعين في الداخل السوري وفي الخارج. يُضاف إليهم بعض معارضين لبسوا وجه العداء الإيديولوجي والسياسي للنظام الجديد، كما يحدث في السويداء ضمن جماعة الشيخ حكمت الهجري.
تدخّلات داخلية وخارجية لتوتير الأوضاع الأمنية وتصعيد النزعات الطائفية والعنصرية وتكريس انقسام السوريين
وباستثناء تدخّلات أطراف الداخل من فلول وأنصار وأعداء النظام، يتعدّد المتدخّلون والمؤثّرون من قوى إقليمية ودولية. ففي مناطق شمال شرق الفرات، حيث تسيطر الإدارة الذاتية تحت سلطة قوات "قسد" (قوات سوريا الديموقراطية)، تتواصل تدخّلات إقليمية ودولية وأبرزها من جانب إيران وروسيا، ولكلّ منهما مصالح وأهداف، يسعى إليها من خلال دعم الإدارة الذاتية، وهي من بين وقائع دفعت "قسد" إلى عدم تنفيذ اتفاق آذار 2025 في اندماجها في مؤسّسات الدولة السورية، التي تديرها حكومة دمشق. فيما كانت إسرائيل أبرز القوى الإقليمية المتدخّلة في أحداث السويداء. وهذا أهم الأسباب التي منعت مُعالجة الوضع في السويداء سواء باتفاقٍ سياسيّ بين حكومة دمشق والشيخ الهجري أو عبر حلٍّ عسكريّ، كان يمكن أن تلجأ إليه حكومة دمشق على غرار ما فعلت في الساحل سابقًا.
ولا تقتصر التدخّلات الداخلية والخارجية في ما تشهده سوريا من أحداث ووقائع خطيرة وكبيرة، بل إنّ التدخلات حاضرة عبر وقائع توتير الأوضاع الأمنية الواسعة والمحدودة على مستوى المناطق، كما في موجات تصعيد النزعات الطائفية والعنصرية، وتكريس انقسام السوريين. وفي الأخيرة، كشفت تقارير دولية وتحقيقات استقصائية عن شبكات ودول بينها إيران ودول إقليمية أخرى، تساهم في إثارة النزاعات الأهلية في سوريا، فيما ظهرت في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دعوات وجوه وأسماء معروفة تحرّض على التمرّد وممارسة العنف المسلح في الداخل السوري والتهديد به. وفي الأمر الأخير، صدرت تصريحات من وجوهٍ عشائريةٍ تُعادي الحكومة السورية وأخرى تواليها، بل إنّ دولتَيْن من الجوار السوري هما لبنان والعراق ساهمتا، ولو بصورة مباشرة وغير مباشرة، عبر أطرافٍ محلّيةٍ في تمرير أشخاص وأسلحة وأموال عبر الحدود مع سوريا، وفي البلدَيْن عدد كبير من فلول النظام ومن محازبي خصومه من التنظيمات المرتبطة بإيران.
لا يتناسب الانفتاح المحدود والبطيء مع مسار التدهور السريع الذي يُحيط بالوضع السوري
لا شكّ أنّ المخاوف الناتجة عن الوقائع السابقة خطيرة، لكنّ التدقيق في الواقع السوري، يؤكد أنّها أكثر خطرًا ممّا يبدو، لأنّ العامل الداخلي فيها كبير، ويتجاوز دور أغلب المؤثّرات الخارجية، التي يبقى تأثيرها صغيرًا أو محدودًا باستثناء الدور الإسرائيلي المُنفلت من عقاله، والأسباب في هذا معروفة.
إنّ أساس العامل الداخلي في ما تعيشه سوريا من ظواهر ووقائع في الانقسام الكِياني وصعوبات حلّه وفي تدهور الحالة الأمنية وتنامي النزعات العنصرية والطائفية، يعود إلى الأزمة المتعدّدة الأبعاد التي تعيشها سوريا نتيجة دمار البلاد في بناها وقدراتها، وتشتّت سكانها، وتراجع تأثيرهم وفاعليتهم إلى مستويات تغلب فيها السلبية. وكلّه يترافق مع سياساتِ حذرٍ تتّبعها حكومة دمشق، لا يتناسب انفتاحها المحدود والبطيء، وما يجري من تصحيحات، مع مسار التدهور السريع الذي يُحيط بالوضع السوري. ففي علاج الجانب السياسي من الأزمة العميقة، ما زال "الانفتاح" مُقتصرًا على أشخاصٍ لا اتجاهات، يبدو أغلبها خارج اهتمام السلطة. وفي المجال الاقتصادي، فإنّ الانفتاح محدود في أبعاده القانونية والإجرائية وفي إعلان اختياراته وبرنامجه، وجهده في جلب الاستثمارات والمساعدات، التي ما زالت في حدود التفاهمات، وكلّه مجرّد أمثلة تترافق مع طلب مهلٍ لا يتبيّن أي مؤشر لنتائجها المرتقبة واحتمالاتها.
ضرورة وضع خطّة حكومية تتضمّن انفتاحًا عميقًا لا شكليًا وخرائط اقتصادية تلبّي احتياجات السوريين
يودّ الكثير من السوريين، والكثير ممّن يدعمون الإدارة السورية الجديدة من الدول العربية والأجنبية، أن تنجح الأخيرة في تأدية دورها ومهمّاتها وإخراج سوريا والسوريين من آثار الكوارث التي خلّفها نظام الأسد على سوريا والسوريين. غير أنّ الأمر لا يقف عند الرغبات والآمال وخاصةً تلك التي تقع خارج منظومة السلطة في سوريا، التي تملك سلطة القرار، ويمكنها تنفيذه وتقويم نتائجه وإجراء التصحيحات فيه إذا رغبت. وبهذا المعنى، فإنّ المسؤولية الأساسية هي مسؤولية السلطة في دمشق قبل أي طرف، ممّا يدفع إلى تأكيد ضرورة وضع خطّة حكومية واضحة، تتضمّن انفتاحًا سياسيًا وشعبيًا عميقًا لا شكليًا، ووضع خطط وخرائط للأنشطة الاقتصادية بحيث تلبّي الاحتياجات الأساسية والضرورية للسوريين ليس من أجل تحسين حياتهم فقط، بل أيضًا من أجل المُراكَمة لمستقبل بلدهم وأجيالهم.
إنّ خطواتٍ معلنةً واضحةً وشاملةً تستجيب لاحتياجات السوريين وبلدهم، ستقابَل بالدعم والمساندة من قبل الداعمين العرب والأجانب للعهد الحالي والانخراط في جهود إعادة البناء والتنمية. كما ستقابَل بتأييد ومشاركة أكثر من أغلب السوريين الذين عافوا الحروب والصراعات والأزمات والانقسامات، ولا شكّ أنّ خطوات حكومية معلنة وواضحة وذات عمق، ستتجاوز في تأثيرها كلّ ما سبق، وستؤدّي إلى وقف التداعيات والأخطار الراهنة، وتخرج بسوريا والسوريين من الحالة الحرجة التي يعيشونها.
(خاص "عروبة 22")