إنّ ما يقدمه المسعودي في كتاباته التاريخية التي وصلت إلينا يقف كشاهدٍ على حقيقة أنّ أساس الحضارة هو في قبول التنوّع وإدارته، وأنّ الانفتاح الواعي على الثقافات المُختلفة شريطة أساسية، وهو ما عكسته تجربة المسعودي الذي انطلق من بغداد العباسية، في سلسلةٍ لا تنتهي من الرحلات التي طاف خلالها في مختلف أنحاء عالم المسلمين، والأمم المحيطة به. لذا، يقول عنه المستشرق النمساوي ألفرد فون كريمر (Alfred von Kremer): "أكثر الكتّاب الجغرافيين أصالةً في القرن العاشر"، نظرًا لما سجّله من معلوماتٍ تاريخيةٍ وجغرافيةٍ دقيقةٍ عن الأقطار التي زارها.
دخل في نقاشات مع أصحاب الديانات المختلفة والثقافات المُتباينة ليس بهدف المُغالبة بل بهدف الفهم والمُكاشفة
وصل إلينا من كُتب المسعودي كتابه الشهير "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، وكتاب آخر بعنوان "التنبيه والإشراف"، وفيهما يقدم الكثير من التقارير الفريدة عن أصحاب الأديان المختلفة، والشعوب المُحيطة بالعالم الإسلامي، بشكلٍ فيه تقدير ورغبة في الفهم لا في الحكم والإدانة. هذه الروح التي تُميّز المسعودي يُرجعها المُستشرق الفرنسي إتيان مارك كاترمير (Étienne Marc Quatremère) إلى أنّ اتساع أفقه ومعرفته يعود "لا لأنّه قرأ جميع الكتب الخاصّة بالعرب وتأمّل فيها، بل إلى إحاطة مباحثه الواسعة بتاريخ اليونان والرومان وجميع أمم الشرق حديثها وقديمها".
يدخل المسعودي خلال رحلاته التي شملت معظم العالم المعروف في عصره، في نقاشاتٍ مع أصحاب الديانات المختلفة والثقافات المُتباينة، ليس بهدف المُغالبة، بل بهدف الفهم والمُكاشفة، فهو حريص أشدّ الحرص على أن يطّلع على كتب المُختلفين. لذلك، نراه يُثبت اطّلاعه على بعض كتب الطائفة المارونية، ويذكر تحديدًا كتاب قيس الماروني، كما يذكر أسماء عددٍ من كتب الطائفة الأرثوذكسية المصرية، وفي مقدمتها كتاب البطريرك سعيد بن البطريق.
ويذكر بعض التفاصيل عن الهندوسية والزرادشتية، وينقل عن أصحاب هذه النحل في روحٍ علميةٍ عميقةٍ، فيقول بعد سرد أخبار الفرس وملوكهم، "غير أنّ الذي حكيناه هو ما أخذناه عن علماء الفرس". ويقول إنّه أخذ معلوماته عن بلاد النوبة من ابن أحد حكام الواحات في بلاد النوبة، والذي التقاه في مدينة الفسطاط في مصر، فيقول: "وسألته عن الكثير من أخبار بلدهم، وما احتجت أن أعلمه من خواصّ أرضهم، وكذلك كان فعلي مع غيره في سائر الأوقات ممّن لم أصل إلى بلادهم".
استخدم عقله في تسجيل معلومات قائمة على احترام الآخر وقبول التنوّع الخلّاق حضاريًا
وهو منصفٌ أشدّ الإنصاف حتى مع المُختلف معه في المُعتقد، فعند ذكره للجاحظ المُعتزلي في كتابه "مروج الذهب"، يقول: "وكُتُبُ الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صداء الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنّه نظّمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ... وسائر كتبه في نهاية الكمال". لكنّ الإعجاب بالجاحظ لا يمنع عقل المسعودي النّقدي من نقده في العديد من الأخبار التي لم يثبت صحتها علميّا.
ويعترف المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي (Ignati Kratchkovski) بروح الإنصاف والتقصّي التي ميّزت أعمال المسعودي فيقول في كتابه "تاريخ الأدب الجغرافي العربي": "من المُستحيل إنكار ما يتميّز به المسعودي من تنوّع النشاط العلمي وما يتّصف به من موضوعيةٍ في الحكم على ما يتعلق بالشعوب والأديان، فهو يسأل باهتمامٍ ممثلي مختلف العقائد ويفحص بانتباهٍ فائقٍ كتبهم، ويتعرّف جيدًا إلى آدابهم، وكان موقفه محايدًا إزاء النصارى واليهود والصابئة". ليخلص إلى أنّ المسعودي "يقف على قمّة المعارف الجغرافية لعصره، وكان دائمًا يتطلّع إلى الحصول على أحدث المعلومات عن البلاد التي لم يَزُرْها بنفسه".
الروح التي جسّدها هي خلاصة روح الحضارة العربية الإسلامية
من كلّ هذا يتبيّن لنا أنّ المسعودي نجح في كتابة تاريخٍ للعالم الذي عاصره، ولم يقتصر على التأريخ للمسلمين، بل شملت رؤيته التاريخية العالم المعروف وقتذاك. واستخدم عقله الجبّار في تسجيل معلوماتٍ قائمةٍ أساسًا على احترام الآخر وقبول التنوّع الخلّاق حضاريًا، هذه الروح التي جسّدها المسعودي هي خلاصة روح الحضارة العربية الإسلامية، القائمة على مظلّةٍ واسعةٍ تستوعب الأفكار والنحل والمذاهب المختلفة.
نموذج المسعودي يستحقّ الاحتفاء والاستدعاء في اللحظة الراهنة، لأنّه يُجيب على الكثير من الأسئلة الراهنة سواء على مستوى التعايش بين المُختلفين، أو على مستوى الانفتاح الثقافي الذي يهضم ما يكتبه الآخرون ويبني عليه إبداعه الشخصي.
(خاص "عروبة 22")

