يبدو للوهلة الأولى أنّ المقصود هو التطرّف الموصوف بالإسلامي، أو الجماعات الدينية المُنطلقة من فهمٍ إسلاميّ، أو حتى ما يسمّى "بيئة التطرّف" في الخطاب الديني أو الثقافي العربي، وبتعبيرٍ ديبلوماسيّ غربيّ: "القضاء على كلّ أفكار من شأنها إزالة وجود إسرائيل، أو تحفيز الأجيال الجديدة على قتل اليهود، أو ترويج أفكار عن الخلافة والسيطرة والتفوّق الإسلامي على الآخرين".
لا يمكن لوم من يفهم العبارة هكذا؛ فقد صيغت بالفعل بطريقةٍ تُوحي بأنّ التطرّف لا يعيش وينمو إلّا بين العرب، وأنّ أي حديث عن استئصال التطرّف موجّه للعرب وحدهم. هذا أيضًا ما فهمه معلّقون ومتابعون وإعلاميون "عرب"، من الذين يُطلّون عبر شاشاتٍ "عربيةٍ" ليتحدّثوا بوضوح عن تجفيف بيئة التطرّف، خصوصًا فيما يتعلّق بالحديث عن الصراع مع إسرائيل. قال أحدهم مُستنكفًا: "لِيُجَرِّمَ العرب خطابات المنابر التي تدعو إلى الكراهية ضدّ اليهود وتصفهم بأحفاد القردة والخنازير... ولِتُعَادَ صياغة المناهج الدراسية بعيدًا عن ثقافة الغزو والجهاد وإلقاء الآخر الإسرائيلي في البحر".
كيف يمكن إخلاء الشرق الأوسط من التطرّف بينما أفكار "الخلافة اليهودية الصهيونية" تزداد تجذّرًا في العقل الإسرائيلي؟
ربّما تعتقد أنّه من المهم مناقشة هذا الطرح وتفنيده، وقد تتوقّع أن أحدّثَك عن المقاومة وفوائدها وعن الذاكرة وأهمّيتها، وعن ربط الأجيال بالقضية وما إلى ذلك، لكنّني سأنطلق من اتفاق مع هذا الطرح: حجم التطرّف كبير بالفعل في العالم العربي، وقدرة التنظيمات المتطرّفة على تجنيد الأجيال الجديدة بدوافع الحماسة التاريخية والنضال من أجل الخلافة واقعية، والنظرة إلى اليهود كلّهم من دون تمييز بين يهود "الإبادة" و"يهود الرفض" موجودة كذلك؛ كلّ هذا حاصل ومُتجذّر في العقل العربي ويحتاج إلى استئصال. وشرق أوسط خالٍ من التطرّف هو بالضرورة شرق أوسط أفضل وأكثر أمنًا وسلامًا.
لكن أين الإنصاف؟.. تحدّث عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه في بياناته عن المنطقة، مُتعهدًا أن يُعامِل الجميع بإنصاف. وإذا كان المفترض أن نواجه التطرّف، فيستوجب أن نُعيد تعريفه من جديد، وأن نسأل بوضوح: مَن هو الطرف الأكثر تطرفًا في الشرق الأوسط؟.
هل هو الشاب الفلسطيني الذي يحمل حجرًا أو سلاحًا بدائيًا في وجه دبابةٍ ليصدّ عدوانًا ويُحرّر أرضه، غير طامعٍ في أكثر من زوال الاحتلال بما يتوافق مع الشرعية الدولية؟ أم السياسي والعسكري الإسرائيلي الذي يُصدر أوامره بإبادة مدينةٍ كاملةٍ باسم أسطورةٍ دينيةٍ عمرها آلاف السنين، هدفها محو الآخر والاستيلاء على أرضه وتاريخه ووجوده ومستقبله؟.
من بين الفلسطينيين، مَن منهم أشدّ تطرفًا تحدّثَ عن تحرير الأرض من أجل إقامة الخلافة، ومَن منهم يرى القضية أبعد من شعبه ومعاناته مع الاحتلال؟ وكم سياسيًا إسرائيليًا، وعلى رأسهم رئيس وزراء حكومة الإبادة بنيامين نتنياهو، تحدّث عن إسرائيل التوراتيّة الكبرى والمملكة الضائعة والهيكل المدفون؟.
كيف يمكن إخلاء الشرق الأوسط من التطرّف بالقضاء على أفكار الخلافة الإسلامية، بينما أفكار "الخلافة اليهودية الصهيونية" حيّة وراسخة وتزداد تجذّرًا في العقل الإسرائيلي؟ وكيف يستقيم الحماس لدعوات استئصال المناهج والثقافة والأفكار التي تحتقر الآخر وتُشرعن الغزو وتصف الآخرين بالخنازير، في حين توجد حكومة كاملة تملك جيشًا وحشيًّا ومنظومةً تعليميةً عنصريةً وحاضنةً يمينيةً متطرّفةً تصف الفلسطينيين بالحيوانات وتنزع إنسانيّتهم وتسعى للتوسّع في كلّ المنطقة استجابةً لهوَسٍ توراتيّ ينظر إلى الآخرين باستعلاءٍ ويُحرّض على العنف ويمارسه بأشكاله كافّة، من هجمات المستوطنين الإرهابية إلى إبادةٍ جماعيةٍ مُكتملة الأركان.
التطرّف المنسوب إلى الإسلام عليه إجماع بالإدانة والتجريم لكنّ التطرّف الصهيوني محمي دوليًا وإعلاميًا
إنّ التطرّف الأخطر في الشرق الأوسط الذي يستحقّ الاستئصال موجود داخل إسرائيل. كلّ التطرّف الموجود في المجتمعات العربية معروف مصادره وأهدافه، وقد اكتسبت المجتمعات قدرةً على مقاومته وعزله، لكنّ التطرّف الصهيوني لا يجد من يواجهه، حتى إنّ المُتحمسين لإخلاء الشرق الأوسط من التطرّف لا يكادون يذكرونه بالحماس نفسه الذي يتحدثون به عن غيره.
يقف على رأس هذا التطرّف بنيامين نتنياهو وتحالفه اليميني الديني، الذي يُعدّ الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل. تحالفٌ يضم وزراء لا يتورّعون عن الدعوة العلنية لطرد العرب أو قتلهم، ويعتبرون أي تسوية مع الفلسطينيين خيانةً لـ"العهد الإلهي" الذي منحهم الأرض من النيل إلى الفرات. هذا التيار ليس هامشيًا في السياسة الإسرائيلية، بل أصبح هو التيار الحاكم، وصار التطرّف عقيدة دولة، لا مجرّد انحرافٍ سياسيّ أو فكريّ.
هم لا يرون الفلسطينيين بشرًا، بل عائقًا أمام نبوءة توراتيّة. ولا يرون الحرب جريمةً، بل عبادةً لأنهم يؤمنون بأنّهم ينفّذون إرادة الله في "تطهير الأرض". في المناهج الدراسية الإسرائيلية، يتعلّم الأطفال أنّ أرضهم تمتدّ من النيل إلى الفرات، وأنّ العرب غرباء يجب إزالتهم، وأنّ الله منحهم هذه الأرض بوعدٍ أبديّ لا يُناقَش. وفي الأغاني العسكرية والشعبية، يسمع التلاميذ أهازيجَ مثل "لتحترق قريتك"، و"لن نترك حجرًا على حجر"، و"سنستعيد أرضنا كلّها". هذه ليست مجرّد شعارات، بل زرع منهجي للكراهية في عقول الأجيال. ثم يخرج الساسة الإسرائيليون، وخلفهم حلفاؤهم سياسيًا وإعلاميًا، ليتحدّثوا عن "محاربة التطرّف الإسلامي" وكأنّهم لا يرون المذابح التي ارتكبوها باسم "النّقاء الديني".
التطرّف المنسوب إلى الإسلام عليه إجماع بالإدانة والتجريم حتى من أعلى المرجعيات والمؤسّسات الدينية الإسلامية المُعتبرة، وهو في النهاية تطرّف شاذ عن السياق العام للدين الإسلامي والمجتمعات العربية وحكوماتها وأنظمتها. لكنّ الوجه الأخطر للتطرّف الصهيوني أنّه محمي دوليًا وإعلاميًا، وتمارسه دولة وحكومة بشكلٍ معلنٍ ومعترفٍ به.
رأينا في غزّة النسخة الكاملة من التطرّف الصهيوني الديني في أكثر صوره فجاجةً: حكومة تتحدّث بلغة "الحرب المقدسة"، وجنود يرفعون رايات التوراة على دباباتهم، وحاخامات يباركون القصف، ووسائل إعلام تصف المدنيين بأنّهم "ذرّية عماليق" ويجب استئصالهم.
المتطرّفون عملة واحدة لا فوارق في ذلك بين أبو بكر البغدادي وبنيامين نتنياهو
هل هناك تطرّف أشدّ من هذا؟ هل هناك إيديولوجيا أقرب إلى فكر "داعش" من هذا الفكر الذي يبرّر الإبادة باسم الرب؟ وما الفارق بين مَن يبحث عن دولة الخلافة ومَن يبحث عن مملكة داوود؟
الشرق الأوسط الخالي من التطرّف يبدأ من الاعتراف بالحقيقة. لا معنى لأي حديث عن القضاء على التطرّف لا يتضمّن الدعوة لإقصاء نتنياهو وائتلافه وبرنامجه وأفكاره وسياساته. لا يمكن أن يزدهر الاعتدال الذي يروّجون له في المنطقة، بينما تظلّ إسرائيل دولةً تحكمها أساطير التوراة وتغذّيها نزعة تفوّقٍ عِرقيّ. والسلام الحقيقي لن يولد إلّا بعد تفكيك التطرّف الصهيوني من جذوره الفكرية والسياسية، تمامًا كما تُفكّك الجماعات المُتطرّفة في العالم العربي.
التطرّف ليس دينًا، بل انحراف في فهم الدين؛ والمتطرّفون عملة واحدة... لا فوارق في ذلك بين أبو بكر البغدادي وبنيامين نتنياهو.
(خاص "عروبة 22")

