إذا كان الإطار النّظري يُحدّد الاتجاه، كما ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال، تُظهِر الخريطة التطبيقية إلى أيّ مدى قطع العرب شوطًا في بناء شبكاتهم المالية، وأين تكمن فرصهم ومخاطرهم في الطريق إلى التكامل. تبرز جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية ودولة قطر كنماذج رائدةٍ في التحوّل المالي الرقمي.
فقد استطاعت مصر عبر شبكة "فوري" أن تنشئ منظومة مدفوعاتٍ متكاملةٍ تضمّ أكثر من 372 ألف نقطة بيع وتخدم نحو 52 مليون مُستخدِم، بقيمة معاملاتٍ تصل إلى 12 مليار دولار سنويّا. هذه التجربة المصرية ليست مجرّد قصة نجاح محلية، بل دليل على أنّ بنيةً ماليةً عربيةً قادرةً على خدمة شرائح واسعة من السكان ممكنة التحقيق، إذا توفّرت الإرادة التنظيمية والاستثمار في التكنولوجيا.
التطبيقات تُشكّل لبنات أولى في شبكة مالية عربية تتكامل يومًا بعد يوم عبر المستخدِمين والمستثمرين والتجار
وفي الأردن، قدّمت شركة "مدفوعاتكم" نموذجًا آخر من خلال نظام "إي فواتيركم" الذي يربط المصارف كلّها بمحافظ إلكترونية ومكاتب بريد ومقدّمي خدمات، ليُتيح للمستخدِمين دفع فواتيرهم في الوقت الفعلي وفي شكلٍ آمن. هذا النظام، بإشراف المصرف المركزي الأردني، يعكس وعيًا مؤسّساتيًا بأهمية التحوّل الرقمي في قطاع الخدمات المالية، ويمثّل تجربةً قابلةً للتكرار في دول عربية أخرى.
أمّا قطر، فتمضي في طريقها عبر "مركز قطر للتكنولوجيا المالية"، الذي أعلن عن استثمارٍ تجاوز تسعة ملايين دولار في نحو 70 شركةٍ ناشئةٍ، من ضمن خطةٍ تمتدّ حتى عام 2028 لتخصيص 16 مليون دولار إضافيةً لدعم الشركات الناشئة في مجال التقنيات المالية. وتُشير تقارير إلى أنّ المركز قدّم الدعم إلى أكثر من مئة شركةٍ منذ انطلاقه، عبر برامج الاحتضان والتسريع وتمويل المراحل المُبكرة. هذه المراكز تشكّل اليوم مختبراتٍ حيّةً لتجريب حلول الدفع الذكية وأنظمة التمويل المبتكَر في بيئةٍ عربيةٍ صاعدة.
كذلك، يشهد الخليج تطورًا موازيًا، لكنّه أكثر ارتباطًا بالتجارة الإلكترونية والتمويل الاستهلاكي. فقد برزت تطبيقات مثل "تمارا" و"تابي" في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة كأدوات دفعٍ بالتقسيط من دون فوائد، تجاوزت قيمة كلّ منها مليار دولار، وساهمت في نشر ثقافة المدفوعات الرقمية بين الشباب. أمّا منصّة "ماي فاتورة" الكويتية، فقد نجحت في الانتشار في خمس دول عربية، مُوفّرةً حلولًا متقدمةً للفوترة والتحصيل السريع من خلال مصارف محلية. تطبيقاتٌ كهذه تُشكّل لبناتٍ أولى في شبكةٍ ماليةٍ عربيةٍ غير معلنةٍ بعد، لكنّها تتكامل يومًا بعد يوم عبر المستخدِمين والمستثمرين والتجار.
هناك حاجة إلى إنشاء مركز عربي للأمن المالي الرقميّ لمراقبة المخاطر ودرئها والتنسيق بين الهيئات الرقابية
تُظهِر خريطة المشهد المالي العربي أنّ التحوّل يسير من القاعدة إلى القمّة: من المبادرات الخاصّة والتطبيقات المحليّة نحو التنسيق بين المصارف المركزية وصناديق التنمية العربية. ومن هنا يمكن اقتراح سيناريو للتنفيذ التدريجي يبدأ بتوحيد معايير الدفع والمقاصّة في المشرق والمغرب، على أن تُربَط المنصّات الكبرى لاحقًا ببروتوكولاتٍ إقليميةٍ موحّدة. ومع نضوج هذه المرحلة، يمكن الانتقال إلى إصدار عملةٍ رقميةٍ عربيةٍ مشتركةٍ للتسويات بين المصارف المركزية، تحت إشراف "صندوق النقد العربي"، بحيث تُستخدَم أولًا في التجارة البينية قبل أن تمتدّ إلى الأفراد والشركات.
لكنّ هذا المسار لا يخلو من تحدّيات جوهرية. فالفجوة بين الأطر التنظيمية في الخليج والمشرق والمغرب لا تزال كبيرةً، إذ تختلف مُتطلّبات الترخيص والامتثال والتقارير المالية من بلدٍ إلى آخر، ما يعوق الانسجام المطلوب لأي شبكة موحدة. كذلك، يمثّل الأمن السيبراني خطرًا حقيقيًا، إذ تكشف الإحصاءات أنّ الأنظمة المصرفية العربية تتعرّض إلى مئات الهجمات الإلكترونية شهريًا. من هنا تبرز الحاجة إلى إنشاء مركزٍ عربيّ للأمن المالي الرقميّ تكون مهمّته مراقبة المخاطر ودرءها والتنسيق بين الهيئات الرقابية.
التكامل المالي يُعِيد توجيه جزء من الاستثمارات المُهاجرة نحو الداخل ويؤسّس سوقًا مالية قادرة على المنافسة العالمية
ومع ذلك، تفوق الفُرَص التحدّيات إذا أُديرَ المشروع الموحّد بعقلانيةٍ تدريجية. فتوحيد البنى التحتية الرقمية من شأنه أن يزيد حجم التجارة العربية البينية بمقدار 60 مليار دولار سنويًا وفق تقديرات أولية، وأن يوفّر فرص تمويل بمليارات الدولارات لمشاريع التنمية الخضراء. كذلك، يستطيع التكامل المالي العربي أن يُعِيدَ توجيه جزءٍ من الاستثمارات العربية المُهاجرة نحو الداخل، وأن يؤسّس سوقًا ماليةً قادرةً على المنافسة العالمية.
وفي ضوء ذلك، تبرز مجموعة من التوصيات العملية: ضرورة بناء آلية حَوْكمةٍ عربيةٍ مشتركةٍ تُعنَى بالتحوّل المالي الرقمي؛ وتطوير برامج تدريبية متخصّصة للعاملين في المصارف المركزية وشركات التكنولوجيا المالية؛ وتأسيس مجلسٍ عربيّ للمدفوعات الرقمية يُعنَى بتنسيق المعايير الفنية والأمنية. وفي المقابل، يجب الانتباه إلى المخاطر الاستراتيجية، وعلى رأسها التسييس المالي واحتمال تحوّل الشبكات إلى أدوات نفوذٍ بدلًا من أن تكون جسور تكامل. فالاستقلال المالي لا يتحقّق إلّا إذا كانت الحَوْكمة شفّافة، والمصالح موزّعة بعدالة بين الدول الأعضاء.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")

