تقدير موقف

الخلفيات الأولى لـ"الأكثرية" و"الأقليات" في سوريا!

تزايدت الأحاديث والسجالات عن الأكثرية والأقلّيات في سوريا، وسط جدلٍ ساخنٍ عن أطروحاتٍ وتمايزاتٍ ومظلوميّاتٍ وصراعاتٍ باتت تهدّد مستقبل البلاد، وتدفعها في اتجاه الذهاب إلى كياناتٍ متضادّةٍ متصارعةٍ أو المضي في الطريق إليها على الأقلّ، الأمر الذي لن يُغيّر واقع الجغرافيا السياسية في سوريا فقط، إنّما في بلدان الجوار، وربّما في الأبعد من المحيط الإقليمي، لأنّ امتدادات الأكثرية والأقلّيات حاضرة في أغلب دول المُحيط السوري والقريبة منه.

الخلفيات الأولى لـ

حساسية موضوع الأكثرية والأقلّيات، تفرض مستوًى هادئًا من التدقيق، يبدأ من الوقوف عند مفهومَيْ "الأكثرية" و"الأقلّيات" لما يحيط بكلٍّ منهما من حيثيّات وتفاصيل، تجعلهما مختلفَيْن عن المفاهيم المماثلة في دول أخرى فيها "أكثرية" و"أقليات" من نوعٍ ما.

فكرة الأكثرية والأقلّيات حاضرة في العديد من المجالات والموضوعات، غير أنّها تستند في سوريا بشكلٍ خاصٍّ إلى العدد. ووِفق التقديرات الشائعة للسكّان، هناك أكثرية من العرب حسب الانتماءات القومية، والأكثرية الثانية من المسلمين تبعًا للانتماء الديني، والأكثرية الثالثة من السُنّة حسبما يُظهره التقدير العددي للطوائف الإسلامية، وتبدو الأكثرية في حالتها القائمة ممتدّةً في عمق أكثر الأقلّيات.

"الدين لله والوطن للجميع" الشعار الذي استُمدّت منه مقاومة السوريين لفكرة الانتداب تقسيم البلاد إلى خمس دول

وتشمل الأكثرية العربية مُنتمين إلى دياناتٍ وطوائفَ، بينهم المسيحيون وأغلبهم من العرب، وأكثرية الطوائف الإسلامية من علويين ودروز وإسماعيليين وشيعة ومرشدية من العرب أيضا. ولا تقتصر الأكثرية الإسلامية على معظم العرب، بل تضمّ أغلب الأكراد وكلّ التركمان والشركس، وتتشكّل أكثرية المسلمين السُنّة من عرب وكرد وتركمان وشركس، وخُلاصة هذا التركيب المُتداخل في موضوع الأكثرية، أنّه يجعلها أكثريةً متعدّدة الأبعاد، ويجعلها أيضًا أقلّ تشدّدًا وقدرةً على التماسك والسيطرة، التي تميّز حالةً أكثريةً قوميةً أو دينيةً أو طائفيةً في بلدانٍ أخرى. وهذا قد يفسّر لجوء بعض الأكثرية السورية مؤخّرًا إلى استعمال تعبير "أمويين" للدلالة على أكثرية لها قاعدة مختلفة خارج الطوائف، وخارج الأكثرية الدينية أو القومية.

إنّ الوصول إلى حالة التداخلات القومية والدينية والطائفية الراهنة في موضوع الأكثرية والأقلّيات، يُعتبر محصلةً موضوعيةً لعوامل مُتعدّدة، بعضها يرتبط بطبيعة المنطقة وتاريخها باعتبارها منطقة عبور الناس والبضائع في طرق التجارة ومرور الجيوش، ومنطقة عيش وتلاقي وتفاعل واسع بين أقوام وأديان وطوائف، عاشت في المنطقة لأزمانٍ طويلةٍ، وأصبحت من نسيجها الإنساني والحضاري.

والعامل الثاني في أساس التداخلات، يبدو في ما كرّسته التجربة السورية طوال المائة عام الماضية من تجارب في إطار تأسيس وترسيخ كِيان سياسيّ متنوّع، يجمع تشكيلةً واسعةً من مكوّنات أساسيةٍ ووافدةٍ، ويسعى لتكوين جماعةٍ وطنيةٍ واحدةٍ على نحو ما هو شائع في بلدانٍ كثيرةٍ من العالم الحديث. وهذا ما اشتغلت عليه الجماعات والتكوينات السياسية والاجتماعية في المشرق العربي خاصةً مع بداية القرن العشرين.

انقسامات السوريين إلى أكثرية وأقليات تُخالف مبادئ التشارك التي أسّسها روّاد النهضة وكرّسها آباء الاستقلال

بدأ أهمّ تلك الاشتغالات مع خروج الأتراك من سوريا، ودخول القوات العربية إلى دمشق بقيادة فيصل بن الحسين عام 1918 وتشكيل أول حكومة عربية في دمشق، التي كانت خطوة التأسيس الأول للكِيان السوري قريبًا ممّا نعرفه اليوم. وتابع المؤتمر السوري الذي ضمّ ممثلين عن جماعات وقوى سياسية وشخصيات مهمّة، وكانت الخطوة الأبرز للمؤتمر قراره في اجتماع آذار 1920 إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، وأن يكون الملك فيصل بن الحسين ملكًا دستوريًا عليها. لكنّ القوات الفرنسية احتلّت دمشق وفق اتفاقية سايكس - بيكو لاقتسام السيطرة على المشرق العربي، ووضعت حدًّا للتجربة الوليدة.

وعلى الرَّغم من محدوديّة تجربة المؤتمر السوري والدولة السورية الجديدة بمؤسّساتها وأجهزتها، ثم في سياساتها ما بين 2018 و2020، فقد تبلورت ملامح الاجتماع السوري الحديث من حيث مشاركة وتعاون مختلف التكوينات القومية والدينية والطائفية في بنية الدولة الجديدة ومؤسّساتها وتكريس سياساتها، والتي وُلدت من روحها مقولة آباء الاستقلال السوري "الدين لله والوطن للجميع" باعتباره الشعار الذي يُنظّم أساس الحياة السورية في المجالات المختلفة، واستُمدّت منه مقاومة السوريين لفكرة الانتداب تقسيم البلاد إلى خمس دول، واستندت إليه تشاركيات السوريين في تشكيل الحكومات ورسم مسارات سياستها وانتخاب المجالس التمثيلية وتأسيس الأحزاب والجماعات السياسية، التي شارك في تأسيسها وقيادتها أشخاص من التكوينات السورية المتعدّدة.

عاش السوريون تجربة تشارك وتفاعل غنيّة استمرّت ثلاثة عقود قبل أن يطلّ وجه الديكتاتورية والاستبداد عبر الانقلابات

وزاد السوريون إلى ما تقدّم تشاركهم إطلاق الثورات وقيادتها ضدّ الانتداب (1920-1927)، والنضال السياسي الذي قاد إلى الاستقلال والجلاء سنة 1946، وتشاركوا بعده في تجارب الديموقراطية والحريات وخاصةً حرية الإعلام والتنظيم السياسي والاجتماعي، والانتظام تحت سلطة القانون، والمشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والكثير غيرها.

لقد عاش السوريون تجربة تشارك وتفاعل غنيّة استمرّت ثلاثة عقود، قبل أن يطلّ وجه الديكتاتورية والاستبداد عبر الانقلابات التي بدأها حسني الزعيم عام 1949، وتوالت وصولًا إلى حافظ الأسد عام 1970، وسط تدخّلات إقليمية ودولية هزّت الواقع السوري، ودفعت عبر مراحل مُختلفة في الظاهر والباطن نحو انقسامات السوريين إلى أكثرية وأقليات، لا تتعارض مع مصالح سوريا والسوريين فقط، وإنّما تُخالف مبادئ التشارك التي أسّسها روّاد النهضة، وكرّسها الذين أسّسوا الكِيان السوري وآباء الاستقلال.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن