الأمن القومي العربي

"سدّ النهضة": هل يراهن السيسي على استدراج ترامب إلى البحر الأحمر؟!

على نحوٍ مفاجئ، أعاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رفع سقف الضغط السياسي على إثيوبيا، مُلوّحًا بتغييرٍ جذريّ، ما يعني الوقوف لأول مرة بشكلٍ مباشرٍ على عتبة العمل العسكري بعد 14 عامًا من المفاوضات غير الحاسمة!.

مثّل تهديد السيسي نقطة تحوّلٍ في خطاب القاهرة حول سدّ "النهضة"، بتأكيده على أنّ مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي"، أمام ما وصفه بالنهج "غير المسؤول" الذي تتّبعه إثيوبيا، وتعهّد باتخاذ التدابير كافّة لحماية مصالح بلاده وأمنها المائي.

عكست تلك اللغة تصعيدًا لتذكير الجميع بأنّ النيل ليس ملفًّا فنّيًا، بل قضية أمنٍ قوميّ تمسّ وجود الدولة المصرية، ما دفع إلى ردٍّ حادٍّ من إثيوبيا التي اتّهمت القاهرة بـ"تصعيدٍ عدائيّ" يعكس "عقليةً استعماريةً". كما دافعت عن السدّ باعتباره مَنَعَ "كوارث تاريخية" عن مصر والسودان! لكنّ رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي عاد لاستخدام لغةٍ أقلّ حدّةٍ، مؤكدًا استمرار التعامل مع قضية الأمن المائي، بوصفها قضية وجود وطنية.

تصريحات متأرجحة

وبينما اتّسمت تصريحات السيسي مؤخّرًا بطابعٍ تحذيريّ مباشرٍ، أبرزها عبارته الشهيرة "مياه النيل خط أحمر"، ركّز مدبولي على الإطار القانوني والعلمي للنزاع، مؤكدًا أنّ "النيل لا يمنحه أحد، بل هو نظام بيئي مشترك"، وأنّ أي حديث عن "نسبٍ مساهمةٍ" في مياهه يتنافى مع القانون الدولي.

وعلى الرَّغم من محاولاتٍ إعلاميةٍ في القاهرة، للترويج لفكرة أنّ إثيوبيا تحوّلت إلى العدو الأول بدلًا من إسرائيل لرجل الشارع المصري، وأنّ التفاهمات بين السيسي ونظيره الأميركي دونالد ترامب تجلّت خلال قمّة شرم الشيخ الأخيرة للسلام، وقد شملت ضرورة حماية الأمن المائي المصري، إلا أنه لم يصدر عن الجانب الأميركي أي تصريح رسمي يمنح القاهرة تفويضًا أو دعمًا عسكريًا في هذا الاتجاه. إنما على العكس تمامًا، كان موقف إدارة ترامب، كما عبّر عنه مُسعد بولس، مستشاره لشؤون أفريقيا، أكثر عمليةً في حديثه عن إدارة الملف كقضيةٍ فنّيةٍ لا سياسية، ما يعني تقليص البُعد الجيوسياسي للصراع والتركيز على "التروّي" و"الواقعية".

الموقف الأميركي.. وفرص الحرب

وفي محاولةٍ أميركيةٍ واضحةٍ لإبقاء مصر وإثيوبيا ضمن دائرة التفاهم لا المواجهة، نصح بولس بالتعامل مع سدّ النهضة الذي تمّ افتتاحه، كأمرٍ واقعٍ، مشدّدًا على وجوب حلّه سلميًا.

وعلى الرَّغم من ترويج واشنطن لقمّةٍ مرتقبةٍ بين السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، تظل الوساطة الأميركية محدودةً وضعيفة التأثير، إذ تكتفي واشنطن بتصريحاتٍ عامةٍ عن "الحلّ السلمي".

وفيما تبقى السياسة الأميركية في دائرة التردّد والرمزية أكثر من الالتزام الفعلي، تُظهر المؤشرات أنّ الولايات المتحدة - في عهد أي إدارة - لا ترغب في فتح جبهةٍ جديدة في القرن الأفريقي، بل تُفضّل تسويةً تحفظ مصالح الحلفاء وتُجنّب المنطقة انفجارًا جديدًا.

على الرَّغم من حضور السيناريو العسكري في الخطاب المصري، لكنّه يصطدم بجملةٍ من القيود العملية والتقنية، وهو ما يجعل احتمالاته أقلّ من 10% وفق تقديراتٍ عسكريةٍ أميركيةٍ وغربية.

ومع غياب الأدلّة عن وجود ضوء أخضر أميركي لعمل عسكري مصري، تُشير تسريبات ديبلوماسية من الاتحاد الأوروبي إلى أنّ واشنطن نصحت القاهرة بالتهدئة والسير نحو تفاهمٍ قانونيّ مُلزمٍ، بينما تعهّدت دولٌ خليجية بتكثيف الوساطة بين الطرفَيْن.

لهذا، تعاملت دول القرن الأفريقي بحذرٍ مع هذا التصعيد، حيث دعا السودان لتفادي "خطوات أحادية قد تُدخل المنطقة في دوامةٍ جديدةٍ من النزاعات المائية"، متأثرًا بالحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، فيما تراهن كينيا على الاتحاد الأفريقي، وتلتزم جيبوتي والصومال سياسةً أقرب إلى الحياد.

تموضع تفاوضي.. ومغامرة السيسي

لربّما لا تُعَدُّ تهديدات السيسي "إعلان حرب"، بقدر ما هي إعادة تموضعٍ تفاوضيّ، عبر تحويل الملف المائي إلى ورقة مساومةٍ في توازناتٍ أوسع تمتدّ إلى البحر الأحمر وملف غزّة والوجود الأميركي في المنطقة.

تُدرك القاهرة التي تسعى لفرض قواعد تشغيل مُلزمة تحمي تدفّق المياه في فترات الجفاف، أنّ تدمير السدّ سيكلّف إثيوبيا والسودان ثمنًا كارثيًّا، ويؤثّر سلبًا في صورة مصر الدولية والالتزامات القانونية.

وعلى الرَّغم من المخاوف التقليدية من أنّ أي ضربة على السدّ ستُعيد مصر إلى دائرةٍ معقّدة من الضغوط الديبلوماسية والاقتصادية، إلا أنّ تصعيد القاهرة سيستمرّ بلغةٍ تهديديةٍ كآليةٍ لرفع الضغط التفاوضي، وهو أسلوب سبق توظيفه في مراحل سابقة من النزاع، مقابل تمسّك إثيوبيا بوضع السدّ كأمرٍ واقع.

وهنا تكمن الحاجة إلى التوازن بين النزعة الوطنية (ألّا تُفقِد مصر نقطة ضغط مائية) والواقعية الجيوسياسية، بعدما تحوّل الخلاف على السدّ، في كل من مصر وإثيوبيا، إلى صراعٍ أوسع بين قوى إقليمية وعالمية حول النفوذ في حوض النيل.

وعلى الرَّغم من دخول معركة المياه مرحلة الردع بالتصريحات لا بالقوة، تهدّد مصر بحربٍ مباشرةٍ إذا واجهت خطرًا وجوديًا لا يمكن تداركه، على الرَّغم من تقييد الواقع لهذا الخطاب.

وهكذا، ينقل نجاح القاهرة في إنهاء حرب غزّة، الصراع من البحر المتوسط الى البحر الأحمر، ويُعيد ترتيب الأولويات الإقليمية، عبر مغامرة السيسي لاستدراج ترامب إلى صفقةٍ سياسيةٍ كبرى، قد تضبط المشهد بدلًا من تدهوره!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن