صحيح أنّ هناك تفاوتًا "عربيًا" في درجة الاستبداد والصرامة السياسية، وأيضًا في درجة التسيب والرخاوة المجتمعية إلا إنها بقيت موجودة في معظم البلاد العربية.
لقد تمتّعت البلدان الخليجية بنظام عام منضبط وحديث، إداريًا ومهنيًا، وبصورة فاقت كل البلاد العربية، أما بلدان مثل مصر والعراق ولبنان، بجانب اليمن وليبيا والسودان وسوريا (قبل الحروب) فظلّت تعاني من درجة كبيرة من الفوضى والعشوائية والترهّل الإداري، في حين أنّ بلادًا أخرى لم تكن من بلاد الوفرة النفطية مثل البلاد المغاربية الثلاثة (تونس والجزائر والمغرب) وجميعهم تمتّعوا بحد أدنى من قواعد تنظّم الفضاء العام لتضبط الشارع والحيّ والولاية، رغم وجود ظواهر عشوائية إلا أنها لا تقارن بحالة بلد كبير مثل مصر.
وقد تكون "الظاهرة المصرية" الأكثر وضوحًا في تجسيد هذا التناقض، فيندهش الكثيرون من صرامة الدولة التي تصل إلى حدّ القسوة تجاه معارضين سياسيين أو نقابيين مستقلين أو مثقفين وكتّاب يغرّدون خارج السرب، أو مدافعين عن دولة القانون، وكيف أنّ البعض يُحاسَب "حساب الملكين" على هفوة أو كلمة، في حين لا تمتدّ هذه الصرامة إلى المجال العام والشوارع العامة وكل أنماط الحياة، حيث تعاني من تسيّب وفوضى واستباحة وغياب لأيّ قواعد قانونية وبصورة غير مسبوقة.
التواطؤ الحكومي مع التسيّب والفوضى المجتمعية ملحوظ
في مصر لا توجد إشارة مرور تُحترم إلا نادرًا، ولا توجد محطات للباصات إلا موقف البداية والنهاية، أما "الميكروباص" فحدّث ولا حرج، فلا توجد محطات أصلًا إنما الوقوف والسير فُجائي وحسب مزاج السائق ودون أي قواعد، حتى أصبح "السلوك الميكروباصي"، من غشم ومخاطر مميتة وعشوائية في القيادة واستهانة بأرواح الركّاب، مهيمنًا على الشارع.
فوضى الميكروباص تكاثرت لتنجب "التكاتك" وهي وسيلة مواصلات يمكن قبولها لو قنّن وضعها ورخّصتها الحكومة، وهو ما يمثّل فرصة لجلب بعض المال لخزينة الدولة، ولكن المدهش أنّ الحكومة التي تحرّكت وتفنّنت في فرض ضرائب مختلفة الأشكال والأنواع تركت "التوك توك" بدون ترخيص رغم أنّ عددهم اقترب من ٦ ملايين عربة صارت مصدر للفوضى والعشوائية والشجار اليومي.
أما مشهد فوضى البناء فقد عرفته مصر منذ عقود طويلة حتى أصبح هو القاعدة في كثير من الأحياء، وحين قرّرت الدولة مؤخرًا مواجهته قامت بهدم بعض البيوت المخالفة أو قبول التصالح بعد دفع غرامات مالية دون أن يتواكب مع ذلك أيّ إصلاح لمؤسسات الدولة الشريكة في المخالفات، سواء كانت أجهزة إدارية أو محليات، وبقيت فوضى البناء ومخالفات الأحياء تقريبًا على حالها لأنّ الحلّ ظلّ في دفع الغرامات وليس تنظيم عملية البناء.
من زار مصر في العقود الأخيرة سيكتشف أنها تكاد تكون البلد الوحيدة في العالم التي لا تُغلق فيها المتاجر في مواعيد محددة، وكل المحاولات التي تحدثت فيها الحكومة عن ضرورة وجود مواعيد لإغلاقها كانت مجرّد نوايا طيبة أو أحاديث صحفية لم ترقَ إلى محاولات جادة للتطبيق.
فهل يعقل في بلد باتت تُقطع فيه الكهرباء بشكل يومي أن نجد متاجر تبيع الملابس والأحذية وورش صيانة وتصليح تستمر في العمل إلى الفجر وتستهلك كهرباء وتفتح بعد الظهر؟!.
اللافت أنّ الحكومة استجابت لضغوط أصحاب المتاجر الذين تمسّكوا بالفوضى وعدم الالتزام بأيّ مواعيد تحت حجج مختلفة من نوع: "خلّونا ناكل عيش" لأننا في ركود وأزمة، في حين أنها لا تستجيب لأيّ ضغوط أخرى من أجل إصلاح سياسي أو من أجل دعم حرية الرأي والتعبير، بل إنها تتشدّد مع كلّ من تكلّم أو سرّب صورة لهدم مقبرة تاريخية أو لتجاوز رجل شرطة أو صوّر تكدّس الطلاب في المدراس العامة أو مشكلة في مستشفى حكومي.
الخروج من أزماتنا سيكون بدولة قانون عادلة تطبّق قواعدها في كل المجالات السياسية وغير السياسية
التواطؤ الحكومي مع التسيّب والفوضى المجتمعية ملحوظ، والتشدّد والقسوة مع أيّ مبادرة للمجتمع نفسه في المجال السياسي والنقابي أو الخدمي أمر ملحوظ أيضًا في مفارقة صارخة.
الحقيقة أنّ هذا التناقض بين تشدّد باليمنى ورخاوة باليسرى بدا لافتًا، خاصة أنّ البلدان التي تشدّدت في المجال السياسي وأسّست لنظام الحزب الواحد القوي، مثل الصين، تشدّدت أيضًا في تنظيم المجتمع ولا يمكن أن تجد في شارع صيني ما يمكن أن تشاهده في مصر وعدد من البلاد العربية، إنما طبّقت النظام المركزي "كما يقول الكتاب" فأنجزت في الاقتصاد وحقّقت معدّلات تنمية مرتفعة، ونظّمت شوارعها ومبانيها ومستشفياتها ومدراسها، أما حالتنا فإنّ المركزية والقساوة في السياسية قابلتها رخاوة في باقي الجوانب "غير السياسية"، وأصبح السؤال: هل من أسباب؟.
قد تكون هناك مجموعة من الأسباب وراء هذا التناقض، أهمّها عدم وجود قناعة حكومية كاملة بأنّ الخروج من أزماتنا سيكون بدولة قانون عادلة تطبّق قواعدها في كل المجالات السياسية وغير السياسية، أما السبب الثاني فلِكي تمتلك الدولة مسطرة واحدة تطبّق على السياسيين وعلى حراس الفوضى المجتمعية، فإنّ الأمر يتطلّب شرعية سياسية راسخة وتنمية وإنجاز اقتصادي كما فعلت الصين.
والحقيقة أنّ البلدان العربية وغير العربية التي عاشت هذا التناقض عانت من أزمة شرعية سياسية نتيجة غياب الديمقراطية ودولة القانون، ومن إخفاق اقتصادي نتيجة تعثّر خطط التنمية، وهنا تضطر أن تترك الفوضى والتسيّب للتنفيس عن الناس لأنها لا ترغب في دفع ثمن مواجهة الفوضى، فلو فرضت مواعيد على المحلات التجارية فإنها ستُغضب البعض ممن اعتادوا الفوضى والتسيّب، وإذا قامت بترخيص "التوك توك" فهذا قد يعني بداية محاسبة كلّ المخالفين الذين اعتادوا ألا يُحاسَبوا، وهو سيعني غضب بعضهم، كما أنّ تنظيم الشوارع ومواجهه المخالفين يتطلّب قانونًا عادلًا يُطبّق على الجميع، وهو ما سيعني غضب من تعوّد على المخالفة من "الحرافيش" أو من "أهل الحظوة".
إنّ مواجهه الفوضى والتسيّب والاستباحة وغياب المحاسبة سيُغضب كثيرًا ممن تعوّدوا عليها ومارسوها، وإنّ أيّ نظام سياسي لكي يتحمّل غضب هؤلاء يحتاج إلى شروط أهمّها امتلاكه توافقًا ونجاحًا سياسيًا في دمج القوى الحزبية والنقابية والمجتمعية المؤيّدة والمعارضة داخل إطار الشرعية الدستورية والقانونية، بما يعني امتلاكه لظهير شعبي داعم للنظام القائم ومستعد أن يقف خلفه بقوة في مواجهة التسيّب والفوضى والاستباحة في كلّ مجالات الحياة.
(خاص "عروبة 22")