وجهات نظر

المِـحَن العربية.. والحسّ القومي

تعيش هذه الأيام كلّ من المغرب وليبيا على وقع كارثة إنسانية مرعبة، الأولى لا زالت تعاني من ويلات زلزال دمّر بعض المناطق الجبلية بالحوز نواحي مراكش مخلّفًا وراءه أكثر من ثلاثة آلاف قتيل والآلاف من الجرحى، والثانية خسرت إثر اعصار دانيال آلاف القتلى والمئات إن لم نقل الآلاف من المفقودين، أُعلن على إثرها مدينة درنة، مدينة منكوبة فقدت أكثر من ثلث مساحتها في البحر، فهل يرتفع منسوب الحسّ القومي إثر هذه المحن التي تصيب بعض الدول العربية أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون دغدغة للوجدان العربي سرعان ما يخبو؟ هل يمكن أن تكون المحن الناتجة عن الكوارث الطبيعية مناسبة لمساءلة، بشكل نقدي، مشروع القومية العربية؟

المِـحَن العربية.. والحسّ القومي

بالبداية، نحن نُميز هنا بين أمرين، الأول أنّ المِحن التي تسبّبها الكوارث الطبيعية تحرّك بشكل عام الوجدان الإنساني أينما وجدت، والثاني يخصّ وضعنا القومي حيث منسوب هذا التعاطف يرتفع عندما يتعلق الأمر بجرح يخصّ جزءًا جغرافيًا من وطننا العربي، ففي الأمر الأول نستحضر التعاطف ونحن على الهامش أو خارج المشترك القومي "نحن/ هم"، أما الثاني فنربط التعاطف بالمشاركة الوجدانية، فالأمر يخصّنا "نحن"، لأننا نعتبرهم امتدادًا لنا، فما يمسّهم يمسّنا، محنتهم محنتنا جميعًا، مما يعكس أنّ الأمر يتعلّق بمصير مشترك يصعب التنكّر له.

نزعم أنّ التعاطف الوجداني الذي تخلّفه آثار الكوارث الطبيعية في بعض أجزاء جغرافيا الوطن العربي هو مؤشر إيجابي يساهم في دقّ ضرورة تفعيل المشروع القومي، لكنه من ناحية ثانية، هذا التعاطف يُسائل فاعليته على أرض الواقع، لأنّ الأمر يحتاج لبلورة مشروع حقيقي، فما معنى ذلك؟

لتجاوز التآزر الوجداني الذي لا يُترجم واقعًا، وجبَ تحويل القومية العربية إلى مشروع وجودي يرتبط بالمصالح

إنّ قراءة نقدية بسيطة تبرز أننا في الغالب نتعاطى مع هذا الأمر بالكثير من العاطفة التي تندفع بالبداية بشكل كبير، ثم تتوارى فيما بعد أو تخفّ شدتّها لتعود لما كانت عليه بالبداية، كأن الأمر لا يخرج عن منطق التآزر الوجداني.

نحن أمام شقّين في هذا السياق: الشقّ الشفوي الذي يشترك كل الفاعلين في التأكيد على ضرورة تقوية الفعل القومي، مقابل الشقّ العملي الذي لا نعرف الوجهة المسؤولة عنه، لأننا بكل بساطة نتغاضى عن توجيه السهام نحوها، لنقل إننا إزاء ما يُشبه المحاباة النقدية.

لتجاوز مرحلة التآزر الوجداني القومي الذي لا يُترجم واقعًا، إلا بباب المساعدات والإعانات، وجبَ تحويل مطلب القومية العربية إلى مشروع وجودي يرتبط بمصالح اقتصادية / سياسية وثقافية بالدرجة الأولى، ونعتقد أنه يمكن اعتماد بعض هذه النقط في هذا الاتجاه:

- تقوية العمل الوطني يساهم في خلق انخراط فعلي في إطار تكتلات قومية يجمعها الحسّ القومي والمصالح الاقتصادية والسياسية، فلا ضير إن استُهلّت هذه التكتلات ببعض الدول العربية ذات الرؤية السياسية والاقتصادية المشتركة على أمل مستقبلي في توسيع بؤرة هذه التكتلات، قد تمثّل الدول التي تتبادل فيما بينها الفعل التضامني أثر الأزمات بشكل سلس وسريع نموذجًا لذلك، على اعتبار أنّ عمومية المطلب تُبْطِل فعاليته وكذا جدواه، كما أنها تصير مناسبة لتفريغ الخلافات السياسية التي غالبًا ما تُجمّد الفعل القومي.

الاستهانة بدور التأثير الرقمي يُحدث عازلًا حجريًا بين الوعي القومي والوعي الشعبي

- أغلبنا يثير مطلب القومية العربية من باب الوجدان العاطفي الذي تغديه المحن بشكل ما، في حين أنّ الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية واقتصادية فاعلة، قد يكون محرّكها وجداني ثقافي، وهو باب قد يثار بفضل العالم الافتراضي، وتبيّنت جدواه في العديد من القضايا، لكن يظلّ فاعلها بالأساس سوسيوسياسي واقتصادي.

- تمثّل الفسحة الافتراضية اليوم قوة لا يستهان بها، وأي تأخير في الانخراط الفاعل لما يتيحه هذا الإمكان سيساهم لا محالة في عواقب مستقبلية يصعب تجاوزها، إذ تبيّن أنها نافذة مهمة في توجيه دفة الفاعل السياسي والعكس صحيح، رغم ذلك يُلاحظ نوعًا ما تخلّف الطبقة المثقفة، ربما هو تأخّر ناتج عن استخفاف أو استعلاء، لكن الأكيد أنّ هذه الاستهانة بدور التأثير الرقمي يُحدث عازلًا حجريًا بين الوعي القومي المأمول تحقّقه والوعي الشعبي الذي يتغذى في الغالب على الموجود والمتاح، مما يخلق مساحة رحبة للتيار المعاكس الذي قد يخدم بوعي أو بدونه أجندات إيديولوجية معينة، والتي لا تخرج عن خندق المحاباة السياسية والنفعية التي تعمّق الجرح القومي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن