بصمات

الإنسان العربي.. والحاجة إلى الراحة كشرط في الانتماء!

طلبُ الراحةِ ليس استدعاءً للخمول والتكاسُل إزاء مشهدٍ كونيّ قد لا يُتيح أحيانًا لحظةَ صمتٍ واحدةٍ، يتسرَّبُ إليها التأمُّل والتفكّر والإنصاتُ إلى العالم بما هو مجال الوجود الوحيد الممكن للفرد ليعيش ويهنأ ويُحقّق السعادة. الراحة ليست سوى القدرة على بناء سياقٍ تشعرُ فيه الذّات الراهنة بأنها تحقِّقُ رغباتها باستيعابٍ مثمرٍ للعلاقة بين مُمكناتها وواقعها، وبين أفكارها وقيمها، ضمن ظروف العيش المشترك، أو الواجب جعله مشتركًا بالفعل، لإبقاء الانسجام الوجودي قائمًا بين الفرد والعالم، بما يمنع الشرّ ويجعل الأرضَ مهادًا للخير، يسعى فيها الإنسان بلا خوفٍ لتأمين سُكنى روحه الإبداعي المنتج في عالم اليوم المأزوم حضاريًا.

الإنسان العربي.. والحاجة إلى الراحة كشرط في الانتماء!

نسأل كيف ننتقل من الوعي بالأزمات إلى القدرة على العيش داخل هذا الواقع من دون اغتراب، تُجبرنا على عيشه قوى لا تسلك في علاقتها بالآخر، إلّا مسلك الهيمنة؟ كيف نُبطِلُ مفاعيل إنتاج ثقافة السيد والعبد، ونحنُ أصبحنا نتفاعل مع التقنية بما هي شريك محتمَلٌ في تقرير قيم العيش الراهن؟.

نحن اليوم نحسبُ حسابَ الذكاء الاصطناعي في الاشتراك الفاعل بتحديد مصائرنا، فهل يعقَل ألّا نكون مرتاحين في العلاقة بأشيائنا وأندادنا وشركائنا في هذا العالم؟. علينا أن نعيَ ذواتنا المشتركة، لنُدرِكَ كيف ننتمي إلى نفوسنا الحرّة ونحن نبني هُويتنا الرّاهنة. فأن يُصبحَ الإنسان العربي "كائنًا مرتاحًا في الواقع المعيش" يعني أن يعيش انسجامًا بين ذاته وعالمه، فيتحقّق فيه نوعٌ من التصالح الوجودي والمعرفي والحضاري. وهذا ما لا يُنجزه الإجراء السطحي في تعديل وسائل تنمية الاقتصاد أو السياسة لتُلائم العلاقات الإجبارية مع الدول، بل نتحدَّثُ عن تربية الوعي الحضاري وإنباتِه في أرضِه الخصبة. وهذا يكون في تفعيل الاشتغال بهذا الوعي في أعمق مستوياته. وهو ما يحتاجُ إلى إدراكِ الشروط النظرية والعملية مقترنةً بالآليات المُفعِّلة للعلاقة بين الفرد والواقع لإحداث الراحةِ هدفًا لعملية النموّ الحضاري للفرد العربي.

لا يمكن أن يكون الإنسان مشتركًا في تقرير مصير العالم وهو خاضع لمنظومة ظالمة من الطبقات الحاكمة

الكائن المرتاح في الواقع اليوم هو الإنسانُ الشجاع، الذي لا ينسحب من العالم، بل يبني قيَمَه في معيشه الراهن، بحيث يؤسِّسُ وجودَه الحرّ بناءً على تخطيطٍ لصناعة ثقافةٍ تُلائم وجدانَه في معرفة حدوده التأثيرية وفي تنمية دوره في بعثِ القيم الأخلاقية التي تواكب التطوُّر التقني لإنجاز العلم الإنساني. ونقصدُ بالعلم الإنساني، ذاك التوجُّه القصدي لفهم وضعية الإنسان المُعاصر الذي هو فاعل الابتداء المعرفي في الكون، وليس نقطةً مكانيةً يمكن مغادرتها ولا لحظةً زمانيةً يمكن تجاوزها. الكائن الإنساني اليوم مُطالبٌ ألّا يختلقَ غُربَتَه في العالم، بل عليه أن يتحمَّل مسؤوليته الحضارية في الاستمرار بإنسانيّته المُطلقة في سيادة الكون.

ما العلمُ إلّا وعي بعلاقة الإنسان بمحيطه، وهذا ما يُحتِّمُ إشراك كلّ البشر في التعلُّم وفي إنتاج العلم. أمّا أن يجري إنتاج العلم في سبيل الهيمنة من كائنٍ بشريٍّ على كائنٍ آخر مثله، فإنّ في ذلك إخلالًا في فهم الإقامة الحرّة في هذا العالم.

من هنا نطرح تجديد التعامل مع مفهومٍ فقده الإنسانُ اليوم وهو الراحة. نحن نحتاج إلى الشعور بالسكينة ومن هنا علينا أن نُهيِّئَ في مجتمعاتنا سياقات التفكير من دون خوفٍ، إذ لا يمكن أن يكون الإنسانُ مشتركًا في تقرير مصير العالم اليوم وهو خاضعٌ لمنظومةٍ ظالمةٍ من الطبقات الحاكمة التي تُدير السياسة بثقافةٍ رثَّةٍ لا ترقى إلى مستوى العيش الكريم.

تنتشر قيمُ الفسادِ والعطالة على حساب قيم الإعمار والعمل، فتكثرُ السرقة والأفعال المُخزية، من دون اكتراثٍ بمواكبة العيش المشترك مع الآخر الإنساني في هذا العالم، والذي لا يمكن أن ينشأ بيني وبينه حوارٌ إذا ما كان الفسادُ مُعشعشًا في بناءٍ مفهوميّ الحضاري للتنمية.

من هنا علينا التفكير في الكائن الذي يعيش من دون نفاق، هذا الذي يعمَلُ في وطنه من أجل ابتكار صياغةٍ جديدةٍ للمعنى في الحياة. فالكائن الذي لا يُنافق هو الإنسان الصادق في إبداع الطريقة النّاجعة لإثبات موقفه الوجودي الحرّ المريح في هذا العالم. ثم إنّ الفردَ المُنتجَ هو الذي لا يمتثِلُ للواقع من باب الخضوع له كسلطةٍ مُطلقةٍ على الفكر، بل إنّه يتمثَّلُ هذا الواقع كلَّه مشهدًا مُستمرًّا في التفكير الدائم عنده المُنشغل بتطوير العلاقة بينه وبين العالم. هنا نرى الإنسانَ المفكِّر العامل منشغلًا كلّ الوقت في تحسين ظروف العيش، أي مهجوسًا باستحداث المناهج والوسائل التي تُبقيه رائدًا في الحفاظ على القيم الملائمة للتفاعل الحرّ مع محيطه.

حين يصبح الإنسان العربي قادرًا على القول "أنا أشارك في صنع العالم" عندها يولد الكائن الحضاريّ المُنتمي إلى زمانه

هذا الكائن العامِل كلّ الوقت هو الذي يرى في الاختلاف إمكانًا يفسحُ له المجال لفرصة التعبير عن ذاته في العالم، لا تهديدًا يمسُّ هذه الذّات وهُويتها المُكتملة الثابتة وعقائدها التاريخية غير الخاضعة للجدل. إنّه الفرد الذي يستطيع أن يجعل من حضارته سكنًا للروح، لا قيدًا عليها يحجبُ عنها الانفتاح على مُعاينة التصاميم الممكنة لبناء الهُوية نفسها، بما يتيح للذّات رسم خطط جديدة لتشييد صروح الفهم والاختبار التي تُعيد الإنسانَ إلى المركز المُحدِّد لطبيعة الوجود في العالم.

إنّ تنمية الفرد العربي حضاريًّا ليست مشروع تحديثٍ فقط، بل مشروع بعث "التأنسن" المعيش، فحين يصبح الإنسان العربي قادرًا على القول "أنا أعيش" بمعنى "أنا أشارك في صنع العالم"، عندها فقط يولد الكائن الحضاريّ الجديد المُنتمي إلى زمانه، إنسانًا يشعر بالارتياح من شدَّة الإنتاج ووثاقة التصميم والتخطيط.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن