بصمات

الفعل الاحتجاجي في التمثّل العربي العام!

عرف العالم خلال العقدَيْن الأخيرَيْن تراجُع مجموعة من التصوّرات الأخلاقية والممارسات السياسية التي كانت تؤطّر العلاقات السياسية الداخلية والخارجية، كان أبرزها تراجُع اليسار والحركات النضالية كقوةٍ موازيةٍ للأنظمة السياسية. وقد أفرز هذا التراجُع موجاتٍ احتجاجيةً تحاول قدر الإمكان الخروج عن الأنماط التقليدية للفعل الاحتجاجي.

الفعل الاحتجاجي في التمثّل العربي العام!

في السياق العامّي، غالبًا ما نمارس الفعل الاحتجاجي عن قناعةٍ ديموقراطيةٍ مُقيّدةٍ، إذ هناك خوف يسكننا على نحوٍ حميميّ، حيث الانفلات من التوجّه السلمي للاحتجاج يتربّص بشكلٍ دائمٍ بالفعل الاحتجاجي ذاته.

تجدر الإشارة إلى أنّ هاجس الأمن الفردي والجماعي قد يتعدّى المطالب الاحتجاجية ويفوقها، وبالتالي يُنذر بإفراغها من معناها وكذا جدواها. هذا الصراع الافتراضي المُشكِّل للهوية الاحتجاجية في السياق العربي يُفرز، بمعنى ما، تقاطعًا لا يسمح بإيجاد توافقٍ للحوار والتوافق. لكن مع ذلك، يمكن القول إنّ الفعل الاحتجاجي في السياق العربي استطاع بشكلٍ ما نهج مسارٍ تراكميّ تَجدّد فيه شكل وكذا آليات الفعل نفسه، فانتقلنا من فساحة الرؤية إلى إمكان التحقّق، كأنّنا أمام تمرينٍ مُتبادلٍ ما بين السلطة والمحتجّين على اتفاقٍ ضمنيّ يتمّ من خلاله رسم مجموعة من المُحدّدات التي تخصّ الطرفَين.

لا يُشكّل الفعل الاحتجاجي بالضرورة حافزًا لتحريك العجلة الديموقراطية

ممّا يبرز أنّ الفعل الاحتجاجي يخضع لمنطق التراكم التاريخي لمجموع تجاربه، ونشير هنا إلى أنّ منطق التراكم لا يُحيل بالضرورة على نمطٍ أو مسارٍ مُعيّنٍ، بقدر ما يُشكّل الأرضية التي يُبنى عليها الفعل الاحتجاجي، ما دام أنّ حقل التجربة الراهنة يُلزم تجدّد الفعل الاحتجاجي بناءً على آليات ومستجدّات الفضاء العمومي. كما أنّ هذا لا يعني أنّ الفعل يتجاوز أو حتى يُحدث نوعًا من القطيعة مع مجموع التجارب الاحتجاجيّة السابقة، بقدر ما يعني أنّ تأثير ممكنات حقل التجربة الراهنة في واقع هذه التجربة وكذا أفقها المأمول أو المُنتظر، يستوجب إجاباتٍ تستوعب الفعل الاحتجاجي نفسه.

قد يكون نافعًا في هذا الباب التذكير بأطروحة هانس بلومنبرغ (Hans Blumenberg) من خلال كتابه "مشروعيّة الأزمنة الحديثة" خلال النصف الثاني من القرن العشرين في إطار قراءته لمسار الفاعلية البشرية، خصوصًا فيما يتعلّق بكيفيّة الانتقال من العصر الوسيط إلى العصر الحديث.

لا يخضع المسار التاريخي لمنطق القطيعة أو البداية الجذرية، بقدر ما يخضع لمنطق الاستمرار الثاوي لمجموعةٍ من المتغيّرات التي تخضع بدورها لطبيعة الإشكالات المرتبطة براهنيّة التجربة التاريخيّة المُعبِّرة عنها.

قد يظلّ الإشكال قائمًا لضيق الإجابات، ومن هنا إذا لم تكن هذه الإجابات أكثر مواءمةً مع ما هو مطروح كإشكال، فإنّها تترك ميراث الأسئلة لِمَن يستطيع الإجابة عنها بشكلٍ كافٍ، والذي بطبيعة الحال يقدّم جوابًا جديدًا لسؤالٍ موروثٍ لم تتمّ الإجابة عنه. أو أنّ السؤال تجاوز قدرات الجواب المُقدّم سابقًا ممّا يتطلب جوابًا مغايرًا يفي بالغرض، وبما أنّ الفساحة التأويلية تسمح لنا بالانزياح، فإنّ عملية الإسقاط تمنحنا إمكانيّة القول إنّ الفعل الاحتجاجي يُعبّر عن إشكالٍ قائمٍ في ثنايا المنظومة السياسية، التي ظلّت تقدّم أجوبةً لم تَفِ بالغرض.

ومن هنا، ظلّ الإشكال ثاويًا في الممارسة السياسية العربية منذ عقودٍ، ممّا تطلّب تجدّد الأجوبة التي أصبحت ترتبط بشكلٍ أساسيّ بإمكانيّة التحقّق، فانتقلنا من المطالب الكلّية إلى المطالب الأساسيّة التي تمسّ المواطن في معيشه اليومي.

ممّا سبق يمكن استخلاص الآتي:

ــ عادةً ما يُقال إنّ الفعل الاحتجاجي مسألة صحيّة للممارسة الديموقراطية، ممّا يُغيِّب بشكلٍ ما الحدود الفعلية لهذا الفعل، فقد تختلف أشكال الاحتجاجات ووسائلها، لكنّها في الغالب تُعبّر عن مسار صراعٍ بين طرفَيْن يحرّكهما الوعي السياسي. لهذا، فوجود ثقافة الاحتجاج لا يعني بالضرورة سلامة الفعل الديموقراطي، بقدر ما تنحو نحو رسم مسارٍ لعلاقةٍ متأرجحةٍ بين طرفَيْن يبدوان على طرفَيْ نقيض، على الرَّغم من أنّهما يتشاركان الأرضية المُشكِّلة للهوية السياسية مثار الاحتجاج، لهذا لا يُشكّل الفعل الاحتجاجي بالضرورة حافزًا للتغيّر أو تحريك العجلة الديموقراطية.

ــ يرتبط السلّم التاريخي للفعل الاحتجاجي بمدى تجاوزنا لمجموعةٍ من العقبات السلطوية، سواء في تعاملنا مع أنفسنا أو مع النظام السياسي. ونتحدّث هنا عن أساس طبيعة بناء الوعي السياسي القائم على البحث عن إجاباتٍ لإشكالاتٍ تُعطِّل سلاسة الحوار العمومي في الفضاء السياسي العربي.

طرفان يرسمان لنفسيهما إطارًا لا يضمّ الطرف الآخر لكنّهما يجتمعان تحت يافطة "المصلحة العامة"

ــ هناك دلالة سلبية تُرادف الفعل الاحتجاجي في الوعي العامّي بشكلٍ يجعلها تصل إلى مكانة الندّية مع إطارٍ عامٍّ يُطلق عليه "الدولة"، فنكون أمام طرفَيْن يرسمان لنفسيهما إطارًا لا يضمّ الطرف الآخر، كأنّنا أمام مجالَيْن مُنفصلَيْن، لكنّهما يجتمعان على ممارسة الفعل السياسي تحت يافطة "المصلحة العامة".

ــ إنّ الفعل الاحتجاجي حتى وإن أعلن استقلاله إزاء ما سبقه، فهو يظل مرتبطًا بالإطار المرجعي، فعبره ينطلق ومنه يحقّق انفصاله، أي عملية تجاوز الأجوبة السابقة عبر إعادة الاستثمار بشكلٍ جديدٍ في ثنايا مسارٍ تاريخيّ كائن. وقد تكون المطالب المُتغيّرة تكشف عملية إعادة الاستثمار الوظيفي للإشكال نفسه، هذه العملية التي يتولّد عنها أجوبة مُختلفة تُراعي بشكلٍ أساسيّ ما هو قابل للتحقّق أو الإمكان. نُذكّر هنا بموجة "جيل زد" ضمن أمثلةٍ أخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن