حقّقت غالبية دول العالم المتقدّمة والناهضة قفزاتها الاقتصادية العملاقة خلال الفترات التي كانت غالبية سكانها في سنّ العمل، وهي الفترات التي تُسمّى نافذة الفرصة الديموجرافية. وتلك الفترات نفسها يمكن أن تشكّل في ظلّ نظم سياسية أقلّ كفاءة، أزمة وبلاء عندما يقع جانب مهمّ من تلك الكتلة السكانية فريسة للجهل والبطالة والحرمان من كسب العيش بكرامة وافتقاد الرعاية الحكومية تعليميًا وصحيًا وحياتيًا. وذلك الوضع يدفع جانبًا من تلك الكتلة السكانية إلى التطرّف السياسي والعنف الجنائي. وتمرّ مصر منذ أربعة عقود بهذه الفرصة الديموجرافية التي لا تستغلّها وتترك جانبًا مهمًا من قوة العمل في حالة بطالة.
ذريعة النموّ السكاني كمعوق للتنمية في مصر تنفيها البيانات الرسمية
تُستخدم قضية ارتفاع معدل النموّ السكاني في مصر منذ نصف قرن تقريبًا وحتى الآن كمبرّر لضعف التنمية ومردودها على المواطنين. ورغم أنّ النموّ السكاني كان مرتفعًا وضاغطًا على الموارد في بعض الفترات، وكان التركيب السكاني يتضمّن كتلة ضخمة أقلّ من سنّ العمل أي غير منتجة، إلا أنّ هذا الأمر لم يعد له أي أساس موضوعي، حيث تشير البيانات الرسمية نفسها إلى تراجع معدّل النموّ السكاني في مصر ليبلغ 2,2%، 2,11%، 1,9%، 1,8%، 1,7%، 1,6%، 1,4%، 1,5% في الأعوام 2016، 2017، 2018، 2019، 2020، 2021، 2022 على التوالي. كما تشير إلى أنّ عدد السكان الأقل من 15 عامًا بلغ 35,5 مليون نسمة بما يعادل 34,6% من عدد السكان داخل مصر عام 2022. وبلغ عدد السكان في الفئة العمرية المنتجة أي من 15- 64 سنة نحو 64,1 مليون نسمة بما يعادل 61,5% من عدد السكان داخل مصر. وبلغ عدد السكان الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر نحو 4 ملايين نسمة بما يعادل 3,9% من السكان. وإذا أضفنا عدد السكان خارج مصر وغالبيتهم الساحقة في سنّ العمل ويعملون بالخارج بالفعل، فإنّ نسبة السكان في سنّ العمل لن تقلّ عن 65% من عدد سكان مصر بالداخل والخارج.
وهذا التكوين السكاني هو تكوين مثالي يمكن الاعتماد عليه كأساس لتحقيق نهضة اقتصادية فعّالة أو دورة نموّ وازدهار اقتصادي قوي. لكن ذلك يتوقف على مستوى تعليم وتدريب وتوظيف هذه القوة البشرية في أعمال حقيقية في الصناعة التحويلية وعالية التقنية والزراعة المتطوّرة والخدمات عامة وبخاصة الخدمات الإنتاجية، بما يؤدي إلى زيادة الناتج ورفع مستويات المعيشة، وتحويل القوة البشرية إلى طاقة جبّارة للنهوض.
وتشير البيانات الرسمية إلى أنه من بين عدد السكان البالغ 63,2 مليون نسمة في سنّ العمل في الداخل عام 2021، فإنّ من يُعتبرون ضمن قوة العمل المحتملة (عاملين وعاطلين) لا يتجاوز عددهم وفقًا لتلك البيانات نحو 29,4 مليون نسمة، بما يعني أنّ معدّل الفعالية لا يتجاوز 46,5% مقارنةً بنحو 64% في المتوسط العالمي وفي دول الدخل المتوسط، ونحو 75% في دول الدخل المنخفض، ونحو 60,5% في الدول الغنية وفقًا لبيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العالم، بما يعني أننا نهدر الكتلة السكانية في سنّ العمل بسبب قصور الأداء الاقتصادي والعجز عن خلق الوظائف لهم، فضلًا عن سوء مستوى التعليم والتدريب والتأهيل.
أنماط النموّ السكاني والكفاءة أو الفشل في التعامل مع تبعاتها
هناك مراحل متعدّدة يمرّ بها النموّ السكاني في أي بلد. والبداية هي مرحلة النمو البطيء في المجتمعات البدائية على ضوء ارتفاع معدّل المواليد وارتفاع معدّل الوفيات أيضًا في مجتمعات لم تحرز تقدمًا علميًا يساعدها على مكافحة الأمراض والأوبئة. وتليها مرحلة التذبذب الحاد في عدد السكان على ضوء العلاقة الإيجابية أو السلبية مع عوامل الطبيعة، والسلام أو التطاحن الدموي بين التكوينات الاجتماعية المتجاورة في الصراع على الموارد، وانتقال الأمراض والأوبئة من مجتمع لآخر عبر التواصل الودّي أو العدائي. وفي مرحلة التذبذب هذه قد تحدث انفجارات سكانية كبرى في بعض المناطق والبلدان حتى في ظل التخلف العلمي مثل صحاري وسط آسيا وشبه الجزيرة العربية في العصور الوسطى، نتيجة تضافر العوامل الطبيعية المؤاتية ونقاء الجوّ وغياب الأوبئة، مع عوامل اجتماعية سياسية مثل خفوت أو توقّف الصراعات والحروب، وتعقبها في الغالب موجات نزوح وغزو من مراكز الانفجار السكاني لمَواطن الثروات الطبيعية والحضارات المستقرّة غير المحاربة.
كلّما كان المجتمع هو الذي يحقّق إنجازاته العلمية بنفسه، كلّما كانت التغيّرات الاجتماعية-الثقافية أسرع
وتأتي بعد ذلك مرحلة الانفجار السكاني المنتظم التي يتزايد فيها عدد السكان بمعدلات سريعة تؤدي إلى زيادة هذا العدد بصورة انفجارية بسبب تقدّم العلم والرعاية الصحية بشكل يؤدي إلى تخفيض معدلات الوفيات، وإطالة العمر المحتمل للإنسان عند الولادة، بينما تكون معدلات المواليد مرتفعة مثلما كانت في العهود السابقة لأنها لا تتغيّر إلا بناءً على تطورات اجتماعية-ثقافية بطيئة التغيّر بطبيعتها. وفي قمّة سلسلة التطوّر السكاني، تأتي مرحلة التوازن السكاني التي يبقي تعداد السكان خلالها ثابتًا في ظل تساوي معدلات المواليد والوفيات عند مستويات منخفضة للاثنين.
ومن الجدير بالتأمّل أنه كلما كان المجتمع هو الذي يحقّق إنجازاته العلمية بنفسه وينتصر لقيم العلم والتنوير، فإنّ التغيّرات الاجتماعية-الثقافية تكون أسرع وضمنها ما يتعلق بحجم الأسرة وتحديد النسل. أما في المجتمعات التي تعتمد على استيراد منجزات العلم من الخارج، دون أن تسود قيم العلم والتنوير فيها بصورة عميقة وملائمة لمستوى نتائج الإنجازات العلمية التي حصلت عليها جاهزة من الخارج، فإنّ الانفجار السكاني فيها يكون أكثر حدّة وأطول أمدًا وقابل للتذبذب والارتداد.
وفي مصر بدأ الانفجار السكاني المنظّم في عهد محمد علي وأسرته حيث ارتفع عدد سكان مصر من نحو 2,5 مليون نسمة في بداية القرن التاسع عشر إلى نحو 10 ملايين في نهايته. وواصلت مصر انفجارها السكاني وارتفع تعداد سكانها عام 2000 إلى نحو 65 مليون نسمة، قبل أن يصل عدد السكان داخل مصر في أول يوليو عام 2022 إلى نحو 103,6 ملايين نسمة، فضلًا عن ملايين المصريين الذين يعيشون ويعملون خارج مصر.
الارتدادات السكانية في مصر نتيجة هزيمة التنوير وصعود ثقافة سلفية محافظة
شهدت مصر ظاهرة الارتداد السكاني أكثر من مرّة، فبعد أن أدى التطوّر العلمي والثقافي والاجتماعي خلال عقد الستينيات إلى تراجع وتيرة النموّ السكاني من 2,52% سنويًا خلال الفترة من عام 1960 حتى عام 1966، إلى نحو 1,92% سنويًا خلال الفترة من عام 1966 حتى عام 1976، عاد النموّ السكاني للزيادة بقوة خلال الفترة من عام 1976 حتى عام 1986، ليبلغ نحو 2,75% سنويًا في المتوسط.
وارتبط ذلك الارتداد بموجات الزواج بعد نهاية حرب أكتوبر 1973، وارتبط أكثر بهجرة أعداد كبيرة من العمالة المصرية إلى الخليج من منتصف سبعينيات القرن العشرين وتأثّر هؤلاء العاملين فيما يتعلق بحجم الأسرة وتحديد النسل بالقيم الاجتماعية الخليجية المحافظة وبالفكر المتشدّد والبعيد عمّا كانت منظومة القيم الاجتماعية المصرية قد أحرزته من تطوّر وتحضّر.
لا بدّ من وجود تخطيط حقيقي لتشغيل قوة العمل وتحسين مستوى تعليمها وتدريبها وتأهيلها
ومع تكثيف العمل الثقافي والإعلاني للسيطرة على النموّ السكاني، ومع ارتفاع متوسّط نصيب الفرد من الدخل، تراجع معدّل النموّ السكاني في مصر ليصل إلى نحو 1,9% سنويًا خلال السنوات الخمس التي سبقت ثورة يناير 2011. لكن الفترة من عام 2011 وحتى عام 2015 شهدت ارتدادًا سكانيًا قويًا وبلغ معدّل النموّ السكاني نحو 2,3%، 2,5%، و 2,5%، و 2,6%، و 2,5% في الأعوام 2011، 2012، 2013، 2014، 2015 بالترتيب. وارتبط ذلك بصعود التيارات الدينية المحافظة والرافضة لتحديد النسل إلى السلطة منذ عام 2011 وحتى منتصف عام 2013.
لكن كل ذلك انتهى الآن وتراجع معدّل النموّ السكاني كما ورد آنفًا. ومن الضروري الاستمرار في تعزيز ثقافة تحديد النسل، والاستمرار في تنظيم الحملات الحكومية المنتظمة والمستمرّة للتوعية بالقضية، مع اتخاذ إجراءات حكومية متحيّزة للأسرة الصغيرة العدد التي تنجب طفلين على الأكثر لتشجيع تحديد النسل. وقبل كل ذلك لا بدّ من وجود تخطيط حقيقي لتشغيل قوة العمل وتحسين مستوى تعليمها وتدريبها وتأهيلها لتوظيف نافذة الفرصة الديموجرافية في تحقيق اختراق اقتصادي وتنمية فعالة تؤدي لتحسين مستويات المعيشة ونوعية الحياة.
(خاص "عروبة 22")