الأمن الغذائي والمائي

إنتاجُ المحاصيل الزّيتيّة.. وسُبُل زراعتِها في الأراضي الصّحراويّة!

تُعَدُّ الزُّيوتُ النَّباتِيَّةُ أحد أهمّ مُكَوِّناتِ الأَمْنِ الغِذائيّ في الوطن العربي حيث يعتمدُ عليها السُكَّانُ بشكلٍ أساسيٍّ في التَّغْذِيَةِ والصِّناعاتِ الغذائية، وعلى الرَّغم من الأهمّيةِ البالِغَةِ لِهذا القِطاعِ إلّا أنَّ إنْتاجَ الزّيوتِ النباتيّة في الوطن العربي يُواجه مشكلاتٍ مُتَعَدِّدَةً تُؤَثِّرُ على الأمن الغذائي العربي وعلى الاقتصادِ الزراعي والصناعي معًا.

إنتاجُ المحاصيل الزّيتيّة.. وسُبُل زراعتِها في الأراضي الصّحراويّة!

يُعاني الوطن العربي من فَجْوَةٍ كَبيرةٍ بين الإنتاج والاسْتِهْلاكِ في مَجالِ الزيوت النَّباتِيَّةِ، إذ تعتمد أغلبُ الدول العربية على الاستيراد لِتَغْطِيَةِ احْتِياجاتِها من الزيوت، ممّا يجعلها عُرْضَةً لتَقَلُّباتِ الأسعار العالمية والأزمات الاقتصادية التي قد تؤثر على تَوافُرِ هذه السِّلْعَةِ الحَيَوِيَّة.

الاعتماد المفرِط على الاستيراد يجعل الأمن الغذائي هشًّا

وتُشير تقارير المُنَظَّماتِ الزراعية إلى أنَّ الإنتاج العربي من الزّيوت لا يغطّي سوى 30% من الاسْتِهلاكِ، وعلى سَبيلِ المِثالِ تُعْتَبَرُ مصر من أكبر الدول المُسْتَوْرِدَةِ للزيوت في المنطقة بنسبة 76% من احْتِياجاتِ سُكانها من زيت الطعام. وتصلُ بعض التقديرات إلى أنّها تستورد نحو 96% من احتياجاتها من الزيوت الخامِّ، حيث بَلَغَتْ قيمة وارداتها من الزيوت المُكَرَّرَةِ 1.387 مليار دولار في العام 2024 تليها الجزائر والمغرب ثمّ السعودية.

وهذا الاعْتِمادُ المُفْرِطُ على الاستيراد يجعل الأمن الغذائي العربي هَشًّا، خاصةً خلال الأزمات الاقتصادية العالمية التي تُؤَثِّرُ في حركة التجارة وتَرْفَعُ الأسعار.

وَتُسْتَخْلَصُ الزيوت النباتية عادةً من محاصيل مثل فول الصّويا، دَوّار الشمس، السِمْسِمْ، الذُّرَةِ، النّخيل، القطن، والكانولا، إلّا أنّ المِساحاتِ المَزْروعَةِ بتلك المحاصيل في الوطن العربي لا تزال مَحْدودَةً حيث تُشير الدِّراساتُ إلى أنَّها تَبْلُغُ نحو 6.2 ملايين هكتار.

وتواجِهُ المنطقة العربية تَحَدِّياتٍ عديدةً فيما يتعلّق بزراعة المحاصيل الزيتيّة تشمل مَحْدودِيَّةَ الأراضي الخصبة والتي تتركّز في مِساحاتٍ صغيرةٍ في وادي النيل وسهول المغرب العربي والشام والعراق، بينما تتطلّب مُعْظَمُ المحاصيل الزيتية التقليديّة رَيًّا مُنْتَظِمًا وكمياتٍ كبيرةً من المياه.

ولا يَتِمُّ الاسْتِفادَةُ من الأراضي الصَّحْراوِيَّةِ في زراعة المحاصيل الزيتيّة في ظلّ الغياب الواضح لنُظُمِ الزراعة الدقيقة والرَيِّ الحديث، وكذلك الأبحاث والدراسات المُتَخَصِّصَةِ، وعدم انتشار الأنواع المُحَسَّنَةِ من المحاصيل الزيتيّة التي تتحمّل الجَفافَ والمُلوحَةَ والتغيُّراتِ المُناخية، وكذلك غياب برامج الإرشاد الزراعي الذي يُوَجِّهُ المُزارعين لزراعة المحاصيل الزيتيّة كَخَيارٍ استراتيجيٍ لزيادة الرُّقْعَةِ الزراعية في المناطق الصحراوية. وفي الوقت ذاتِه، فإنّ المزارعين في كثيرٍ من الدول العربية يُفَضِّلونَ زراعة الأراضي الخِصْبَةِ التقليدية بمحاصيل الحُبوبِ الرئيسية والخَضْراواتِ والفاكهة ذات العائِدِ السريع، والتي تُلائِمُ الزراعة التقليدية وَالمِلْكِيَّةَ الصغيرة التي تنتشر في الأراضي القديمة بالدول العربية.

ولكن ما هي الاستراتيجية المُناسبة لِتَعْظيمِ الاستفادةِ من الأراضي الصحراوية العربية في زراعة المحاصيل الزيتيّة في ظلّ التَّحَدِّياتِ سابِقَةِ الذِّكْر؟

تَتَكَوَّنُ الاستراتيجية المُقْتَرَحَةُ من ثلاثة مَحاوِرَ رئيسيةٍ تمثّل خطةً تكامليةً للتوسُّع في المحاصيل الزيتية:

1 - يَتَمَثَّلُ المِحْوَرُ الأول في التوسّع بزراعة المحاصيل الزيتيّة التقليديّة المُقاوِمَةِ لظروف الجَفافِ ونُدْرَةِ المياه في المناطق الصحراوية خاصةً الأَصْنافَ المُسْتَنْبَطَةَ باستخدام الهَنْدَسَةِ الوِراثِيَّةِ مثل السمسم الذي يمتاز بقدرته العالية على تحمّل نقص المياه ودرجات الحرارة المُرْتَفِعَةِ، ممّا يجعله مُناسبًا للبيئة الصحراوية في كلٍّ من مصر والسودان واليمن والسعودية. وكذلك، محصول دَوّارِ الشمس الذي يُمْكِنُ تَكْييفُ بعض أصنافه للزراعة في المناطق الصحراوية مع اسْتِخْدامِ أَنْظِمَةِ الرَّيِّ الحديثة بِالتَّنْقيطِ حيث يُمكن زراعته في كلٍّ من مصر والسودان والعراق والمغرب ضمن مشاريع الزراعة الحديثة. وَمَحْصولُ الفولِ السوداني الذي تَجودُ زراعته في الأراضي الرَّمْلِيَّةِ في كلٍّ من مصر والسودان، والأصناف الجديدة من مَحْصولَيْ فول الصويا والكانولا التي تمّ اسْتِنْباطُها لتتناسب مع الأراضي الصحراوية في كلّ من مصر والسودان. وكذلك، محصول الزيتون الذي يُعَدُّ محصولًا تقليديًا يُناسِبُ الأراضي الصحراوية خاصةً في بلدان المغرب العربي ومصر والشام، والتي تعتمد على بعض الأَصْنافِ البَرِّيَّةِ والهَجينةِ التي أَثْبَتَتْ قدرتها على النُّمُوِّ في البيئات الصحراوية وَشِبْهِ الجافَّةِ مع إِنْتاجِيَةٍ عالِيَةٍ وجَوْدَةٍ للزيوت المُنْتَجَة.

الطرق التقليدية تؤدّي إلى انخفاض جودة الزيوت المنتَجة محليًا وزيادة في الفاقِد منها 

2 - وَيَتَمَثَّلُ المِحْوَرُ الثاني في زراعة محاصيل زيتيةٍ غير تقليديةٍ يمكن أن تَنْمُوَ في ظروفٍ أقلّ مثاليةً وتوفّرَ زيوتًا ذات جَوْدَةِ عالية وتشمل تلك المحاصيل الشيا والكينوا اللّتَيْنِ يمكن زراعتهما في المناطق الصحراوية لقدرتهما على تحمّل درجات حرارةٍ شديدة الارتفاع، بالإضافة إلى تحمّلهما لنُدْرَةِ المياه، وكذلك محصول "الجوجوبا" والذي لاقى اهتمامًا واسعًا في المنطقة العربية لقدرته الشديدة على النموّ في الأراضي الصحراوية الفقيرة في الخصوبة ونُدرة المياه، حيث نجحت زراعته في مصر والأردن والسعودية والإمارات مع ارتفاع نِسْبَةِ الزيت في بُذورِهِ إلى حوالي 50% وَيَتَجاوَزُ عُمْرُهُ الإِنْتاجِيّ 30 عاما.

ومن المحاصيل الزيتيّة غير التقليدية الخروع، الذي يُعْتَبَرُ من أكثر المحاصيل تَحَمُّلًا للجفاف، حيث يتمّ زراعته في كلّ من مصر والسودان واليمن.

وهناك نباتُ "الهوهوبا" البري الذى يتحمّل درجات الملوحة العالية ويمكن زراعتُه بالمناطق الساحلية الصحراوية باستخدام مياه البحر في كلّ من الإمارات والسعودية ومصر، ضمن مشاريع الزراعة المُسْتَدامَةِ بالإضافة إلى محاصيل واعدة أخرى مثل الكرسم والجاتْروفا واليَقْطين.

3 - ثم نأتي إلى المحور الثالث، الذي يَتَمَثَّلُ في تَبَنّي نُظُمٍ تِكْنولوجِيَّةٍ حديثةٍ ومتطوّرةٍ لعمليات استخلاص وَتَكْريرِ الزيوت، والتي تمثّل مرحلةً جوهريةً في سلسلة القيمة الزراعية للمحاصيل الزيتيّة حيث تواجه الدول العربية تحدّياتٍ عدّةً نتيجة استخدام الطرق التقليدية التي تؤدّي إلى انخفاض جودة الزيوت المُنْتَجَةِ محليًا وزيادةٍ في الفاقد منها خلال تلك العمليات، والتي تعتمد على الضغط الميكانيكي الذي يُعطي كمياتٍ أقلّ من الزيت. كما أنَّ استخدام المُذيباتِ الكيميائية في عملية الاسْتِخْلاصِ يزيد من الغَلَّةِ، لكنّه يطرح تحدّياتٍ بيئيةً وصحيةً ممّا يستلزم تحديث تلك الطرق من خلال استخدام المُذيبات الخَضْراءِ التي تُحَسِّنُ من جودة الزيت وتقلّل من البَقايا الكيمْيائِيَّة.

من الأهمّية أن يتمّ تبنّي منهج تكاملي بين الدول العربية لتحقيق أفضل نتائج وأقصى توفير مالي

وهناك أيضًا العديد من التقنيّات المُتطوّرة لعمليات الاستخلاص التي تعتمد على المَوْجاتِ فَوْقِ الصَّوْتِيَّةِ لِتَفتيتِ الخَلايا الزيتيّة وتسهيل خروج الزيت، وكذلك الاستخلاص الإِنْزيميِّ الذي يعتمد على الإِنْزيماتِ لتحطيم بُنْيَةِ الخَلِيَّةِ الزيتيةِ بما يُسَهِّلُ استخراجه ويحافظ على جودته بطريقةٍ صديقةٍ للبيئة.

ومن الأهمّية بمكانٍ أن يتمّ تبنّي المحاور الثلاثة عبر مَنْهَجٍ تَكامُلِيٍّ بين الدول العربية لتحقيق أفضل نتائج وأقصى توفيرٍ ماليٍّ مُمْكِنٍ، وذلك عبر توزيع الإنتاج بين الدول العربية وِفْقًا لميزاتها الزراعية والمُناخية والبشرية، بالإضافة إلى تبادل الخِبْراتِ العربية والتعاون بين المراكز البَحْثِيَّةِ العاملة في هذا المجال للوصول إلى الاكتفاء الذّاتي من الزيوت النباتية وتَقْليلِ فَاتورَةِ الاستيراد الباهِظَةِ على الدول العربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن