وجهات نظر

تَأَمُّلاتٌ في جهود التسوية الراهنة في غزّة

بَدَأَتْ جهود تَسْوِيَةِ الصّراع العربي - الإسرائيلي بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، وَقَبْلَها كانت وِجْهَةُ النظر العربية أنَّ إسرائيل ظاهِرَةٌ اسْتِعْمارِيَّةٌ يَنْطَبِقُ عليها مبدأُ تصفية الاستعمار، وبعدها ظهر مبدأُ ما سُمِّيَ بالتسوية التاريخية، بمعنى القَبول العربي بإسرائيل في حُدود 1948 مع تأسيس دولةٍ فلسطينيةٍ في الضفّة وغزّة.

تَأَمُّلاتٌ في جهود التسوية الراهنة في غزّة

كان المُؤَشِّرُ الأول في هذا الصدد هو قَبول مصر بالقرار 242 في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، غير أنّه لوحظ البُطْءُ الشّديد الذي اتَّسَمَتْ به هذه العمليّة، إذ إِنَّ التسوية على المسار المصري لم تكتملْ إلّا بعد 12 سنةً من هذا القبول تَخَلَّلَتْها أحداثٌ جسامٌ أهمّها حَرْبُ 1973 وزيارة السادات إلى القُدْسِ 1977 ومباحثات "كامْب ديفيد" 1978 وأخيرًا معاهدةُ السلام المصرية – الإسرائيلية 1979. ثمّ أصاب الجُمودُ مسار التسوية لـ14 سنةً حتى تمّ توقيع "اتفاقِ أوسلو 1993" الذي مَثّلَ، على الرَّغم من سَوْءاتِهِ، نقلةً نَوْعِيَّةً في العلاقة بين إسرائيل وَمُنَظَّمَةِ التَّحرير الفلسطينية اعترفت الأخيرة بِموجِبِهِ بدولة إسرائيل التي اعْتَرَفَتْ بدورِها بالمنظمة كممثلٍ للشعب الفلسطيني.

وبعد ذلك، لم يَحْدُثْ أيُّ تقدّمٍ على مسار التسوية إلّا بِتَوْقيعِ مُعاهَدَةِ السلام الأُرْدُنِّيَّةِ – الإسرائيلية 1994 التي كان مَوْضوعُها ثانَوِيًّا بعد استبعاد الضَفَّةِ من هذا المسار، ناهيكَ بتَعَثُّرِ تنفيذ اتفاق أوسلو بحيث مَرَّتْ عليه قُرابةَ ثُلْثِ قرنٍ وهو باقٍ في المُرَبَّعِ الأول. ويؤكّدُ ما سَبَقَ بُطْءَ حركة مسار التسوية بِدَليلِ أنّهُ في أَكْثَرَ من نِصْفِ قرنٍ لم تتمّ خُطْوَةٌ كبيرةٌ على هذا المسار إلّا في الحالةِ المصرية، وحتّى هذه الخطوةُ كانت لها خُصوصيّتُها، فقد تمّت بعد حرب 1973، وهو ما يُشير إلى سِمَةٍ مُهِمَّةٍ لِنَموذَجِ التَّنازُلاتِ التي قدّمتها إسرائيل في مسار صراعِها مع الفلسطينيين والعرب، وهي أنّها لم تُقَدِّمْ أيّ تنازلِ إلّا بعد أنْ مورِسَتْ القُوَّةُ ضِدَّها. وبالإضافة إلى نموذجِ المسار المصري، نَذْكُرُ الانْسِحابَ الإسرائيلي من جنوب لبنان 2000 ومن غزّة 2005، وهو ما يُفيدُنا في فَهْمِ ما يَجْري الآن من جُهودٍ للتوصُّلِ إلى تسويةٍ سياسيةٍ للوضع في غزّة.

اعتبارات الرَشادة تقتضي الانخراط الجاد في جهود التسوية على أن يكون واضحًا أننا لا نقبل تنازلات تمسّ أهدافنا الأساسية

وَأُحاوِلُ الآن تَوْظيفَ النموذج السابِقِ في فهم ما يجري من جُهودٍ بادرت بها الإدارةُ الأميركيةُ للتَوَصُّلِ إلى تسويةٍ سياسيةٍ في غزّة، ويجبُ أن يكون واضحًا أنّ هذه الجُهودَ ما كانت لتبدأَ لَوْلا الصُّمودُ الفلسطيني، فهل بِمَقْدورِنا أن ننسى مواقف تْرامْب الأولى التي كان يَحُثُّ فيها نتنياهو على إتمام مُهِمَّةِ القَضاءِ على المُقاوَمَة؟ أو ننسى دعوةَ تْرامْب في فبراير/شباط الماضي لتهجير سكّان غزّة إلى مصر والأردن وتَحْويلِها إلى ريفييرا جَديدة؟ وفي شُهورِ قليلةٍ تَحَوَّلَ المَوْقِفُ جَذْرِيًّا، وخرج ترامب علينا بخطته لإِنْهاءِ الحرب في غزّة التي تَخَلَّتْ عن هَدَفَيْ تهجير فلسطينيي غزّة وضَمِّها لإسرائيل. وكان السبب في هذا التحوّل ببساطةٍ أنَّ صُمود الفلسطينيين جَعَلَ تَجاهُلَ مَطالِبِهِم كُلِّيَّةً مُستحيلًا، فتضمّنت الخطة بَعْضَها كإنهاءِ الحرب ورَفْضِ التهجير والضمّ وإدْخالِ المُساعدات، وَوَضَعَتْ تَصَوُّرًا لربط الانسحاب بنزع سلاح المقاوَمة، وبقيت بعض القضايا غامضةً كمستقبل الدولة الفلسطينية.

وقد انْخَرَطَتِ المقاومةُ والوُسَطاءُ العربُ في جهود التسوية التي أعْقَبَتْ خُطَّةَ ترامب، وَتَفْعَلُ إسرائيل أقْصى ما في وُسْعِها لِتَعْويقِ تنفيذ الاتفاق، مُسْتَنِدَةً في هذا إلى الانْحِيازِ الأميركي لها، وعلى الرَّغم من بعض المَواقِفِ التي أكدت هذا الانحيازَ، كما في اعتبار ترامب وَمُعاوِنيه أنّ وقف إطلاق النار صامدٌ على الرَّغم من خرق إسرائيل له، وتهديده المتكرّر لـ"حماس" بالجحيم في حال انتهاكها للاتفاق، فإنّ المَوْضوعِيَّةَ تَقْتَضي الإشارة إلى أنّ الإدارة الأميركية تفهّمت التَّأْخيرَ في تَسْليمِ الجَثامينِ الإسرائيلية، كما أنّها تَبَنَّتْ فِكْرَةْ تَوْفير مَمَرٍّ آمِنٍ لِخُروج عناصر المقاومة المَوْجودينَ في أَنْفاقِ رَفَحْ إلى الجزء الذي تُسَيْطِرُ عليه حماس من غزّة أو إلى خارِجِها. وما زال الكثير من الأُمورِ في المسار التَفاوُضي يَكْتَنِفُهُ الغُموضُ، كالرَّبْطِ بين غزّة والضفّة في جهود التسوية، والرُّؤْيَةِ النهائية للدولة الفلسطينية، ومع ذلك فإنَّ اعتبارات الرَّشادَةِ تقتضي الانخراط الجادّ في جهود التسوية، على أن يكون واضحًا كلّ الوضوح أنّنا لا يمكن أن نقبلَ أي تَنازُلات تَمَسُّ أَهْدافَنا الأساسية.

الدنيا تتغيّر وقد يتفاقم الصراع في إسرائيل ولا يبقى سوى العمل على وحدة الصف الفلسطيني ورؤية عربية مشتركة

صَحيحٌ أنّ الوَضْعَ الفلسطيني صعبٌ والعربي غَيْرَ مُواتٍ إلّا أنّهم يَأْلَمونَ كما نَأْلَمُ، ودعواتُ الإطاحة بنتنياهو وحكومته تتصاعد، كما أنّ ترامب قد تلقّى في الأيام الأخيرة ضرباتٍ حَقيقيةً بفوزِ زُهران مَمْداني بمنصبِ عُمْدَةِ نيويورك، فَضْلًا عن خَسارَةِ الجُمْهوريينَ انتخابات حُكّامِ الوِلاياتِ في عددٍ منها، كما أنّ هذه التطورات من دون شَكٍّ تُنْبِئُ بسيناريو بديلٍ محتملٍ في انتخابات التجديد النِّصْفي لِلكونغرِس العام المقبل، فلا يجب إذًا أن نتصوّر أنّنا في وضعٍ لا نَجِدُ فيه أمامنا سوى القَبول بما يُطلب مِنّا من تنازلاتٍ تَمَسُّ أهدافنا الأساسية. فالدنيا تتغيّرُ كما نُشاهدُ بِأَعْيُنِنا في الولايات المتحدة الآن، واتّجاهُ التَّغَيُّرِ حتى الآن مواتٍ لمصالحنا، وقد يتفاقم الصراع الداخلي في إسرائيل على نحو ما نتابع الآن، ولا يبقى سوى العمل على أن نُغَيِّرَ ما بأنفسنا باتجاه وَحْدَةِ الصَّفِ الفلسطيني ورؤيةٍ عربيةٍ مشتركةٍ، وحينها سنكون قادرين بالتأكيد على استرْداد حقوقنا وتحقيق أهدافِنا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن