وجهات نظر

قراءة في فوز زُهران مَمداني (2/2)نيويورك تنتخب ضد ترامب!

ما جرى في "انتخاباتِ نيويورك" هُوَ نِتاجُ تَحَوُّلٍ عَميقٍ فِي المُجْتَمَعِ الأَميرْكيِّ، لَمْ يَبْدَأْ مِنَ البَيْتِ الأَبْيَضِ، بَلْ مِنَ الشّارِعِ وَالجَامِعَةِ، مِنْ أَصْواتٍ شابَّةٍ خَرَجَتْ مِنَ الهَوامِشِ لِتَسْأَلَ ما لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ على سُؤالِهِ مِنْ قَبْلُ: ماذَا تَعْنِي الحُرِّيَّةُ إِذا كانَتْ تُبْنَى على إِنْكارِ حُرِّيَّةِ الآخَرينَ؟ وَأَيُّ ديموقْراطِيَّةٍ تِلْكَ الَّتِي تَقِفُ صامِتَةً أَمامَ مَشاهِدِ الإِبادَةِ اليَوْمِيَّةِ في غَزَّة؟

قراءة في فوز زُهران مَمداني (2/2)
نيويورك تنتخب ضد ترامب!

فِي قَلْبِ هَذَا التَّحَوُّلِ، تَبْرُزُ ظاهِرَةُ زُهْران مَمْداني، الشَّابِّ ذِي الجُذورِ الأَفْريقيَّةِ وَالهِنْديَّةِ، المَوْلودِ فِي أوغَنْدا، الَّذِي صاغَ وَعْيَهُ في نيويورْك، لِيَجِدَ نَفْسَهُ اليَوْمَ في مُقَدِّمَةِ المَدِينَةِ الَّتِي كانَتْ دائِمًا مِعْيارَ الْوَلاءِ لِلنِّظامِ الأَميرْكيِّ وَمُخْتَبَرَ قِيَمِه. إِنَّهُ لا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَدْرِ ما يُجَسِّدُ التَّحَوُّلَ فِي الوَعْيِ الأَميرْكيِّ نَفْسِهِ: من وَعْيٍ إِمْبَراطوريٍّ مُتَعَجْرِفٍ إلى وَعْيٍ نَقْدِيٍّ يُراجِعُ مَعْناهُ وَمَوْقِعَهُ في الْعالَم.

فَوْزُ مَمْداني لَيْسَ مُجَرَّدَ نَجاحٍ لِحَمْلَةٍ انْتِخابِيَّةٍ، بَلِ اخْتِبارٌ لِمِزاجٍ جَديدٍ بَدَأَ يَتَشَكَّلُ فِي أَعْماقِ المُجْتَمَعِ الأَميرْكيّ. فَقَدْ أَصْبَحَتِ القَضِيَّةُ الفِلَسْطينيَّةُ اليَوْمَ امْتِحانًا لِلضَّميرِ الغَرْبيِّ، بَعْدَ أَنْ كانَتْ لِعُقودٍ مِعْيارًا لِلوَلاءِ السّيَاسيّ.

لَمْ يَعُدِ الدِّفاعُ عَنْ إِسْرائيلَ دَلِيلًا على "التَّحَضُّرِ السّياسيِّ"، بَلْ تَحَوَّلَ إلى عِبْءٍ أَخْلاقيٍّ يُثْقِلُ الوَعْيَ العامَّ وَيَكْشِفُ التَّناقُضَ بَيْنَ الشِّعاراتِ وَالْقِيَم. إِنَّها لَحْظَةٌ تَتَصَدَّعُ فِيهَا صورَةُ أَميرْكا عَنْ نَفْسِها، حِينَ يَكْتَشِفُ جيلٌ جَديدٌ أَنَّ الْعَدالَةَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَكونَ انْتِقائِيَّةً، وَأَنَّ مَنْ يَتَجاهَلُ الظُّلْمَ فِي غَزَّةَ لا يَمْلِكُ حَقَّ الحَدِيثِ عَنِ الحُرِّيَّةِ فِي نيويورْك.

ما يجري في نيويورك يقول إنّ الجبل بدأ يتحرّك من داخله

وَلَقَدْ كانَ لافِتًا أَنْ يَقولَ دونالْد تْرَامْب، في واحِدَةٍ مِنْ لَحَظاتِهِ الَّتِي تَفْضَحُ أَكْثَرَ مِمّا تَشْرَحُ: "مِنْ قَبْلُ، كَلِمَةٌ ضِدَّ إِسْرائيلَ كَانَتْ تُخْرِجُكَ مِنَ السّياسَةِ، أَمّا اليَوْمَ فَكَلِمَةٌ مَعَ إِسْرائيلَ هِيَ الَّتِي تُخْرِجُكَ مِنْها". جُمْلَةٌ قَصِيرَةٌ فِي ظاهِرِها، لَكِنَّها تَحْمِلُ مَعْنًى كَبِيرًا يَخْتَصِرُ ما يَجْرِي داخِلَ أَميرْكا اليَوْمَ، انْقِلابٌ في مَوازينِ الرَّأْيِ الْعامِّ، وَتَحَوُّلٌ في البوصَلَةِ الأَخْلاقِيَّةِ الَّتِي ظَلَّتْ لِعُقودٍ طَويلَةٍ ثابِتَةً لَا تَهْتَزّ.

مَنْ كانَ يَجْرُؤُ قَبْلَ سَنَواتٍ قَليلَةٍ على نَقْدِ "إِسْرائيلَ" عَلَنًا في مَدينَةٍ كُبْرَى كَهَذِهِ؟ وَمَنْ كانَ يَتَخَيَّلُ أَنْ تَتَقاطَعَ حَرَكاتُ الْحُقوقِ المَدَنِيَّةِ، وَالعَدالَةِ المُناخِيَّةِ، وَالمُساواةِ العِرْقِيَّةِ، لِتَصْنَعَ مَعًا تَيّارًا جَديدًا يَرَى فِي فِلَسْطينَ مِرْآةً لِقَضِيَّتِهِ، لا عِبْئًا على ضَمِيرِهِ؟.

وَهُنا تَكْمُنُ رَمْزِيَّةُ الظّاهِرَة. فَما يَجْرِي لَيْسَ مُجَرَّدَ تَجاذُبٍ سِياسيٍّ بَيْنَ يَمينٍ وَيَسارٍ، بَلْ مُراجَعَةٌ داخِلِيَّةٌ لِلضَّميرِ الإِمْبَراطوريِّ نَفْسِه. إِنَّها اللَّحْظَةُ الَّتِي تَبْدَأُ فِيها الإِمْبَراطوريَّةُ بِمُساءَلَةِ صورَتِها القَديمَةِ، حِينَ تَنْفَصِلُ الأَفْعالُ عَنِ الشِّعاراتِ، وَحِينَ يَكْتَشِفُ المَرْكَزُ أَنَّ قُوَّتَهُ لَمْ تَعُدْ تُقاسُ بِما يَمْلِكُ مِنْ سِلاحٍ، بَلْ بِما يَحْتَفِظُ بِهِ مِنْ مَصْداقِيَّة.

لَقَدِ اعْتادَ الْعَرَبُ، عَبْرَ نِصْفِ قَرْنٍ أَوْ يَزيدَ، أَنْ يَنْظُروا إلى أَميرْكا كَكُتْلَةٍ صَمّاءَ مِنَ الْقوَّةِ وَالنُّفوذِ، كَأَنَّها جَبَلٌ لا يَتَزَحْزَح. لَكِنَّ ما يَجْرِي اليَوْمَ في نيويورْك يَقولُ شَيْئًا مُخْتَلِفًا تَمامًا: إِنَّ الْجَبَلَ بَدَأَ يَتَحَرَّكُ مِنْ داخِلِه.

نحن أمام فرصة تاريخيّة لا تتكرّر كثيرًا في عمر الأمم

لَيْسَ المَطْلوبُ أَنْ نُراهِنَ على زُهْران مَمْداني كَشَخْصٍ، بَلْ أَنْ نَفْهَمَ الظّاهِرَةَ الَّتِي يُمَثِّلُها كَإِشارَةٍ إلى تَحَوُّلٍ فِي الوَعْيِ العالَميّ. فَالسُّقوطُ الإِمْبَراطوريُّ لا يَبْدَأُ مِنَ الخارِجِ، بَلْ مِنْ لَحْظَةٍ داخِلِيَّةٍ تَنْقَلِبُ فِيها سَرْدِيَّةُ القوَّةِ إلى مُساءَلَةٍ أَخْلاقِيَّة.

وَما لَمْ يُدْرِكِ العَرَبُ أَنَّ ما يَجْري اليَوْمَ فِي أَميرْكا هُوَ بِدايَةُ مُراجَعَةٍ داخِلَ الضَّمِيرِ الْغَرْبِيِّ نَفْسِهِ، فَسَوْفَ نُفَوِّتُ مَرَّةً أُخْرَى فُرْصَةَ أَنْ نَكونَ شُرَكاءَ في صِناعَةِ التّارِيخِ، لا مُجَرَّدَ مُتَفَرِّجينَ عَلَيْه.

نَحْنُ أَمامَ فُرْصَةٍ تارِيخِيَّةٍ لا تَتَكَرَّرُ كَثِيرًا فِي عُمْرِ الأُمَمِ: حينَ يَبْدَأُ المَرْكَزُ فِي التَّحَوُّلِ مِنَ الدَّاخِلِ، يَكونُ على الأَطْرافِ أَنْ تَمْتَلِكَ القُدْرَةَ على الفَهْمِ لا مُجَرَّدَ الانْفِعَال. فَالقُوَّةُ الكُبْرَى لا تُعْلِنُ ضَعْفَها، بَلْ تُعِيدُ تَعْريفَ نَفْسِها. وَهُنا، إِمّا أَنْ نَقْرَأَ التَّحَوُّلَ فَنَتَهَيّأَ لَهُ، أَوْ نَبْقَى أَسْرَى صُوَرِهِ الْقَدِيمَة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن