ثقافة

تحوّلات السينما السعودية‎.. من "الأحواش" إلى "2030"!

هبّت رياح التغيير على أرض المملكة العربية السعودية قبل سنوات، وتحديدًا عام 2017، حين أصدرت وزارة الثقافة السعودية آنذاك، قرارًا بالسماح بإصدار تراخيص لإنشاء دور للسينما. شكّلت عودة الشاشة الفضية إلى المشهد الثقافي السعودي، تحوّلًا مفصليًا في المسار الإيديولوجي لهذا البلد المحافظ.

تحوّلات السينما السعودية‎.. من

يجوز لنا القول إنّ السعودية قد شهدت تاريخًا سينمائيًا حافلًا منذ أربعينيات القرن الماضي. عاشت المملكة تجربة سينمائية استثنائية، اختلفت في جوهرها وتقنيات عرضها عن باقي التجارب السينمائية في دول الجوار الإقليمي. لم يشكّل الطابع التقليداني المحافظ للمجتمع السعودي عائقًا أمام انتشار الثقافة الفنية والسينمائية على وجه التحديد، بين صفوف المواطنين السعوديين الذين عشقوا الفنّ السابع وحرصوا على متابعة جديد السينما العربية والعالمية.

"جاليات النفط" كانوا أوّل من أقاموا دُورًا بدائيةً للسينما

جعلت الطفرة النفطية من دول الخليج مستقرًا للعديد من الجاليات الأجنبية التي عمل أفرادها كمهندسين وتقنيين ومدراء فيما كان يُعرف سابقًا بشركة كاليفورنيا للزيت القياسي. شواهد عديدة من وحي الذاكرة الأرشيفية السينمائية، تؤكد لنا أنّ "جاليات النفط" كانوا أوّل من أقاموا دورًا بدائيةً للسينما، من خلال نصب شاشات ضخمة في محيط تجمعاتهم السكنية بالعديد من المدن السعودية.

لقد كان حنين أفراد الجالية الغربية للشاشة الفضية، وأسلوب العيش الأوروبي/ الأمريكي الذي تكون فيه زيارة المسارح والمتاحف ودور السينما نهاية كلّ أسبوع، مثلًا، متنفًسًا حقيقيًا للعامة، وبالنتيجة، كانت هذه النوستالجيا الفنية فأل خير على مستقبل السينما في السعودية، حيث شرع العديد من المستثمرين السعوديين بداية أربعينيات القرن الماضي، في إنشاء نوع فريد من صالات العرض السينمائي تُدعى بالأحواش.

"سينما الأحواش": تحايل لطيف على صرامة التقاليد

إنّ مجرّد التفكير في إقامة حياة ثقافية وفنية في السعودية بالشكل المتعارف عليه، كبناء صالات سينمائية تقليدية، وما يُصاحبها من المطاعم والملاهي والمقاهي وغيرها من المرافق الترفيهية التي تخالف "الكود الأخلاقي" للمملكة آنذاك، كان أمرًا صعبًا حينها نظرًا لطبيعة المجتمع السعودي المحافظ والمتمسّك بالضوابط الشرعية والأعراف القبلية.

جاءت سينما الأحواش كنوع من التوفيق بين تعطّش المجتمع السعودي للفنّ السابع، وبين احترام الخصوصية الدينية والأخلاقية للدولة، حيث نصب السعوديون شاشات ضخمة فيما يُشبه الساحات العامة. ويُطلق أهل السعودية مصطلح "حوش" على الحديقة الخلفية للمنزل مثلًا، وقد كان اختيار الحوش، اصطلاحًا ومكانًا، ملائمًا لمفهوم التجربة السينمائية، التي أريد لها أن تظلّ كنشاط عائلي حميمي محترم.

انتعشت سينما الأحواش وعرفت إقبالًا منقطع النظير من طرف مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية السعودية. استمتع الجمهور بروائع السينما العربية والعالمية مقابل ثمن رمزيّ، كما استمرّت قصّة الحب بين السينما والسعودية لعقود طويلة، لكن لم تخلُ خلالها هذه التجربة السينمائية الفريدة من تضييق السلطات الأخلاقية أو مناوشات الراديكالية الدينية.

بالموازاة مع ذلك، شهدت تجربة سينما الأحواش انفتاحًا على نوع آخر من جمهور الظل وذلك بسبب غياب المرأة السعودية عن الحوش لسنوات عديدة، كما تمّ استثناء وتهميش شغف السعوديات بالشاشة الفضية إلى حدود الستينيات، واكتفت النساء قبل ذلك بالتجمّع فوق أسطح المنازل لمشاهدة أفلامهن المفضّلة، إلى أن بادرت مجموعة من ملّاك الأحواش إلى تخصيص مكان منعزل للنساء والعوائل. حتى تتمكّن المرأة السعودية من ممارسة حقّها في الفرجة بأريحية وأمان.

تجربة الإنتاج بين سندان التمويل ومطرقة التابوهات

كان طموح الآباء الذين أسّسوا السينما السعودية عظيمًا، حيث انتقل شغف الروّاد من الاقتصار على استيراد الأفلام وعرضها، إلى الرغبة الجامحة في إنتاج أفلام سعودية تنافس سينما الشرق والغرب. غير أنّ البيئة المتعصّبة والطبيعة القبلية للمجتمع، حالت دون الذهاب بعيدًا في هذا المضمار.

اقتصرت تجربة الانتاج الأولى على الفيلم الوثائقي "الذباب" الذي كان بمثابة تأريخ مصوّر لتدشين أوّل بئر بترول في المملكة. وموازاة مع ذلك، لاحقت المساءلة القانونية والتضييق وحتى العقوبات السجنية، رجل الأعمال السعودي فؤاد جمجوم، والذي يُعتبر المؤسّس الفعلي للصالات السينمائية السعودية بالشكل المتعارف عليه، خلال فترة السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات.

طال مقصّ الرقيب الأفلام المعروضة في القاعات السينمائية، بتحريض من الهيئات الدينية التي كانت لديها مواقف نقدية ضدّ الفن، وقد شهد الربع الأخير من القرن العشرين انتشارًا جليًا لمظاهر التطرّف الديني في العديد من دول المنطقة العربية، كما كانت السعودية ومصر، أكثر البلدان تضرّرًا من سطوة الراديكالية الفكرية.

ومن تبعات هذه الظواهر، أنّ حرق دور السينما وتلطيخ الواجهات الإشهارية كانت من أبرز أعمال العنف المادي والترهيب النفسي الذي مارسته الجماعات المتطرّفة ضد العامة، وانتهت قصّة الحب التي جمعت بين السينما والسعودية، نهايةً مأساويةً بإحراق "مترو جولدن ماير" أشهر صالة عرض سينمائية آنذاك، ليسدل الستار بذلك على مغامرة الحوش.

الروّاد الأوائل الشجعان... تحوّلات وخلاصات

دَبّت الحياة في أوصال الحياة الفنية والثقافية في المملكة، بعد أزيد من ثلاثة عقود من قرار المنع والتحريم، وتزامنت إعادة افتتاح أوّل دار سينما سنة 2018، مع بداية بوادر الانفتاح الفكري والتسامح الديني الذي تشهده المملكة أخيرًا، مواكبةً وتطبيقًا لمشروع "السعودية: رؤية 2030"، وهي رؤية يطمح القائمون عليها إلى إحداث نقلة أيديولوجية كبرى، تُمَكّن السعودية من تصدّر مراكز الريادة في مجالات متعدّدة أبرزها السينما والفنون.

مهم جدًا التنويه والاحتفاء بالروّاد الأوائل، أولئك الشجعان الذين أخذوا على عاتقهم حمل مشعل الفن، لينيروا به طريق الطيّبين، في مواجهة خطابات مضادة اتّضح لاحقًا أنّ أفقها محدود في شقّه الإصلاحي والتنويري.

هي تحوّلات جليّة تمرّ منها المنطقة العربية في تدبير العديد من القطاعات، وليس القطاع السينمائي في السعودية إلا أحد مؤشرات هذه التحوّلات المفتوحة بدورها على عدة سيناريوهات، انطلاقًا من خلاصات تجارب الماضي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن