رُبَّما كانَ واقِعِيًّا أَنْ تَتَوارى نِسْبِيًّا صورَةُ الْإِلَهِ خَلْفَ دَقائِقِ عالَمِ التْرانْزيسْتورِ وَفي نَفَقِ شَبَكَةِ الإِنْتِرْنِتِ، غَيْرَ أَنَّ الحَياةَ في نَفَقِ تِلْكَ الدَّقائِقِ وَالشَّبَكاتِ وَحْدَها يَحْرِمُ الإِنْسانَ مِنْ تَحْقيقِ تَكامُلِهِ الذّاتيِّ، الذي يَتَطَلَّبُ وُجودَ مُطْلَقاتٍ تَتَوافَقُ وَاحْتِياجاتِهِ النِّهائِيَّةَ كَكائِنٍ مُرَكَّبٍ، يَحْتاجُ إِلى أَنْ يَتَوازَنَ وُجودِيًّا، فَلا يَفْقِدُ هُوِيَّتَهُ المُتَمَدِّنَةَ كَكائِنٍ عاقِلٍ، وَلَا شُعورَهُ بِالْقَداسَةِ كَكائِنٍ روحِيّ.
وَعَلى هَذَا، يَحُقُّ لَنا رَفْضُ العِلْمانِيَّةِ الرّاديكالِيَّةِ، التي تَقْضي بِعَلْمَنَةِ الأَخْلاقِ إلى جانِبِ عَلْمَنَةِ السُّلْطَةِ، وَلَا تَكْتَفي بِإِزاحَةِ الدّينِ مِنَ المَجالِ العامِّ، وَتَنْحِيَتِهِ بَعيدًا عَنْ مُجْمَلِ البُنَى الاقْتِصادِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ وَالمَعْرِفيَّةِ، بَلْ تَسْعى إِلى نَفْيِهِ مِنَ الوِجْدانِ الفَرْديِّ وَمِنَ الوُجودِ الاجْتِماعيِّ، وَتَهْميشِ دَوْرِهِ في صِياغَةِ الْقِيَمِ السّائِدَةِ، التي لَطالَما عَبَّرَتْ عَنْ نَفْسِها في العَلاقاتِ بَيْنَ الجِنْسَيْنِ، وفي قَوانينِ الزَّواجِ وَالطَّلاقِ، وَفي أَنْماطِ العَيْشِ المُخْتَلِفَة. وَبِالذّاتِ، عِنْدَما تُحاوِلُ تَقْنينَ أَخْلاقِ مَا بَعْدَ الطَّبيعَةِ، وَتَجْعَلُ مِنَ التَّسْوِيَةِ مَعَ المِثْلِيَّةِ الجِنْسِيَّةِ قَضِيَّةً مِحْوَرِيَّةً، صَارَ التَّرْويجُ لَها قَوِيًّا حَتَّى بَيْنَ الأَطْفالِ، يُعاقَبُ كُلُّ مَنْ يُعارِضُها صَراحَةً أَوْ يَمْتَنِعُ عَنِ المُشارَكَةِ في أَنْشِطَتِها الدِّعائِيَّةِ على هامِشِ المُناسَباتِ الكُبْرى، خُصوصًا الرِّياضِيَّة.
الصيغة المتغطرسة من العلمانية تُدخل المجتمعات في دائرة تناقضات وتُحيل نفسها إلى مرجعيَة أخلاقية للوجود الإنساني
وَالحَقُّ أَنَّ قَضِيَّةَ الشُّذوذِ تَظَلُّ إِشْكالِيَّةً مُعَقَّدَةً، أَقْرَبَ إِلى بُقْعَةٍ سَوْداءَ في ثَوْبِ الإِنْسانِيَّةِ، تُشْبِهُ تِلْكَ الثُّقوبَ السَّوْداءَ في الْفَضاءِ الْكَوْنيِّ، والتي لَطالَما آرَقَتْ عُلَماءَ الطَّبيعَة. نَعَمْ عَرَفَتْ جُلُّ المُجْتَمَعاتِ وَالحَضاراتِ القَديمَةِ تِلْكَ الظّاهِرَةَ، لَكِنَّ الأَدْيانَ السَّماوِيَّةَ اسْتَمَرَّتْ في وَصْمِها بِالعارِ، وَاِعْتَبَرَتْها طَرِيقًا لِلهَلاكِ، فَاسْتَمَرَّ التَّعاطي مَعَها على قاعِدَةِ الاسْتِثْناءِ السَّلْبيِّ الضّارِّ، يَتَخَفّى أَصْحابُها عَنِ العُيونِ وَالنّاسِ، وَإِلّا نالَهُمُ العِقَاب. وَقَدْ لا يَكونُ مِنَ الشَّفَقَةِ اليَوْمَ أَنْ نُعاقِبَ هَؤُلاءِ، سَواءً لِأَنَّهُمْ مَرْضى أَوْ حَتَّى احْتِرامًا لِحُرِّيَتِهِمْ في اخْتِيارِ مُيولِهِمُ الجِنْسِيَّةِ، لَكِنَّ الخُروجَ بِالظّاهِرَةِ إلى العَلَنِ، وَاِنْتِقالَ أَصْحابِهَا وَمُشايِعيهِمْ مِنْ مَوْقِفِ الدِّفاعِ إلى الهُجومِ عَبْرَ مُحاوَلَةِ تَقْنينِها وَفَرْضِها عَلَى الآخَرينَ بِزَعْمِ الحَقِّ الإِنْسانيِّ في الاخْتِلافِ لَيْسَ إِلّا جَرِيمَةً في حَقِّ الإنْسانِيَّةِ، تَتَوَرَّطُ فيهَا التَّيّاراتُ اللّيبيرالِيَّةُ المُتَطَرِّفَةُ التي سَمَحَتْ بِزَواجِ المِثْلِيّينَ، وَاعْتَبَرَتِ الشُّذوذَ مُجَرَّدَ اِنْعِكاسٍ لِلتَّنَوُّعِ الطَّبيعِيِّ في الْمُيولِ العاطِفيةِ داخِلَ مُجْتَمَعاتِها.
نَرْفُضُ تِلْكَ الصّيغَةَ المُتَغَطْرِسَةَ مِنَ العِلْمانِيَّةِ، كَوْنَها تُدْخِلُ المُجْتَمَعاتِ في دائِرَةِ تَناقُضاتٍ لَا لُزومَ لَها، تَفْقِدُ مَعَها حَذَقَها وَتَقَعُ أَسيرَةً لِغُرورِها، فَلا تَكْتَفي بِالاسْتِحْواذِ على واقِعِ الحَياةِ بِكُلِّ تَفاصيلِها، بَلْ تُحيلُ نَفْسَها إلى مَرْجِعِيَّةٍ أَخْلاقِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَشامِلَةٍ لِلْوُجودِ الإِنْسانيِّ، تَدَّعي الحَقَّ في إِسْباغِ المَعْنى النِّهائيِّ عَلَيْه. إِذْ تَتَوَقَّفُ عَنِ الرَّكْضِ إِلى الأَمامِ وَتَلْتَفِتُ إِلى الخَلْفِ لِتَنْظُرَ في عَيْنِ الدّينِ وَتَقولَ لَهُ مُعايِرَةً: "لَقَدْ حَسَمْتُ الصِّراعَ مَعَك". فَبِهَذا السُّلوكِ المُسْتَفِزِّ تَتَوَرَّطُ في مُواجَهَةٍ غَيْرِ حَتْمِيَّةٍ مَعَ الأُلوهِيَّةِ، المَفْهومِ الأَكْثَرِ حُضورًا في التّاريخِ البَشَريِّ، لَا بُدَّ أَنْ تَخْرُجَ مِنْها: إِمّا مَهْزومَةً بِالكُلِّيَّةِ، خُصوصًا في المُجْتَمَعاتِ التَّقْليدِيَّةِ كَالمُجْتَمَعاتِ العَرَبِيَّةِ، حَيْثُ تَفَجَّرَتْ نَزْعاتٌ أُصولِيَّةٌ تَخْلِطُ بَيْنَ الدّينِ كَوَحْيٍ، وَبَيْنَ الفِكْرِ الدّينيِّ، وَتَنْطَوِي على شَتّى خِطاباتِ الهَيْمَنَةِ: الطَّبَقِيَّةِ وَالجِنْدَرِيَّةِ وَالمَذْهَبِيَّةِ وَالطّائِفيَّة. وَإِمّا مُرْهَقَةً بِشِدَّةٍ، تُعانِي مِنْ كَدَماتٍ وَجُروحٍ، تَنْعَكِسُ في نَزْعاتِ اِغْتِرَابٍ وَخَواءٍ وَقَلَقٍ، وَتَتَمَدَّدُ في الفَضاءاتِ الفَرْعِيَّةِ داخِلَ المُجْتَمَعاتِ الحَديثَةِ، التي باتَتْ خالِيَةً مِنْ أَيِّ شُعورٍ بِالْقَداسَة.
علينا المساهمة في تحقيق المصالحة الضرورية بين الدين والعلمانية على قاعدة "الفصل الوظيفي"
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ التَّفْكيرَ في مُسْتَقْبَلِنا كَعَرَبٍ، نَاهِيكَ بِمُسْتَقْبَلِ الإِنْسانِيَّةِ، يَفْرِضُ عَلَيْنا المُساهَمَةَ في مِثْلِ هَذا المَوْقِفِ النَّقْديِّ في تَحْقيقِ المُصالَحَةِ التّاريخِيَّةِ الضَّرورِيَّةِ بَيْنَ الدّينِ وَالعِلْمانِيَّةِ، وَذَلِكَ على قاعِدَةِ "الفَصْلِ الوَظيفيّ"، بِحَيْثُ يُدْرِكُ كِلاهُما حُدودَ قُدْرَتِهِ وَمِساحَةَ دَوْرِهِ، وَيَعيشُ داخِلَ تِلْكَ الْحُدودِ في مُجْتَمَعٍ بَعْدُ عِلْمانيٍّ يَقْبَلُ بِحُضورِ المُتَدَيِّنِ طالَما تَخَلّى عَنْ أَيِّ اِدِّعاءاتٍ سِياسِيَّةٍ أَوْ عِلْمِيَّةٍ لِعَقيدَتِهِ، الأَمْرُ الذي يُتِيحُ الشَّراكَةَ بَيْنَ عُمومِ المُواطِنينَ في فَضاءٍ تَعَدُّدِيٍّ يَقْبَلُ الدّينَ مُشارِكًا في صُنْعِ التَّشْريعِ وَلَكِنْ بِطَريقَةٍ عِلْمانِيَّةٍ، أَيْ مِنْ خِلالِ التَّأْثيرِ التِّلْقائيِّ في ضَميرِ مُمَثِّليهِمْ داخِلَ الْهَيْئاتِ التَّشْريعِيَّةِ، الَتي تَتَعَدَّدُ أَسْماؤُها لَكِنَّها تُؤَدِّي الدَّوْرَ نَفْسَهُ، وَهُوَ التَّعْبيرُ عَنِ الإِرادَةِ العامَّةِ في إِطارٍ يَنْعَمُ فيهِ المُواطِنُ بِهُوِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ أَوْسَعَ مِنْ هُوِيَّتِهِ الضَّيِّقَةِ، مِثْلَما يَنْعَمُ بِالحُكْمِ المَدَنيِّ وَالدَّوْلَةِ الْقانونِيَّة.
(خاص "عروبة 22")

