يَعْكِسُ التَّمَدُّدُ الكَبيرُ لِلأَدْوارِ غَيْرِ العَرَبِيَّةِ في مِنْطَقَةِ القَرْنِ الأَفْريقيّ، الأَهَمِّيَّةَ القُصْوى للبَحْرِ الأَحْمَرِ، وقد تَجاوَزَ دَوْرَهُ في العَقْدِ الأَخيرِ كَمَمَرٍّ بَحْريٍّ اسْتْراتيجِيٍّ، إلى ساحَةٍ تَعْكِسُ تَفاعُلاتُ النِّظامِ الدَّوْليّ الجَديدِ، في ظلِّ إدْراكِ العَديدِ مِنَ القُوى الكُبْرى لأَهَمِّيّتِهِ الاسْتْراتيجِيَّةِ، وما يَلْعَبُهُ من دَوْرٍ بارِزٍ في حَرَكةِ التِّجارَةِ العالَمِيَّةِ، وَهُوَ ما باتَ يَفْرِضُ حَسْبَ الكَثيرِ مِنَ الخُبَراءِ، ضَرورَةَ بَلْوَرَةِ رُؤْيَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، تَضْمَنُ الحِفاظَ عَلى اسْتِقْرارِ مِنْطَقَةِ البَحْرِ الأَحْمَرِ، وإِجْهاضِ اسْتِخْدامِهِ مِنْ قِبَلِ تِلْكَ القُوى كَمْنَصَّةٍ للتَّأْثيرِ الإِقْليمِيّ، عَبْرَ تَوْسيعِ مَجالاتِ النُّفوذِ الأَجْنَبِيَّةِ، في ظِلِّ تَراجُعِ مَرْكَزِيَّةِ النِّظامِ العَرَبيّ التَّقْليدِيّ.
تَتَقاطَعُ مَساراتُ القُوَّةِ والتَّنافُسِ على البَحْرِ الأَحْمَرِ، في مُخَطَّطاتِ القُوَى الدَّوْلِيَّةِ لإِعادَةِ رَسْمِ خَرائطِ النُّفوذِ الإِقْليمِيّ في القارَّةِ السَّمْراءِ، وتَتَجَلّى تِلْكَ المُخَطَّطاتِ بِقُوَّةٍ في مِنْطَقَةِ القَرْنِ الأفريقيّ، التي تُمَثِّلُ واحِدَةً من أَكْثَرِ مَناطِقِ العالَمِ حَساسِيَّةً، فَهِيَ من جِهَةٍ تُطِلُّ عَلى مَضيقِ "بابِ المَنْدِبِ"، الذي تَمُرُّ من خِلالِهِ نَحْوَ 12% من حَجْمِ التِّجارَةِ العالَمِيَّةِ، فَضْلًا عنْ دَوْرِهِ الرَّئيسيّ كَبَوّابَةٍ لِعُبورِ "قَناةِ السْوَيْس" مِن جِهَةٍ ثانِيَةٍ، إِلى جانِبِ ما تَتَمَتَّعُ بِهِ سَواحِلُ البَحْرِ الأحْمَرِ الغَرْبِيَّةِ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ اسْتْراتيجِيَّةٍ كُبْرى، تُمَثِّلُ في حَقيقَةِ الأَمْرِ، خَطَّ الدِّفاعِ الأَوَّلِ للأمنِ القَوْمِيّ العَرَبِيّ في الشَّرْقِ والجَنوبِ، بِما تَضُمُّهُ من مَوانِئَ تَلْعَبُ دَوْرًا بارِزًا، بِوَصْفِها مَنافِذَ اسْتْراتيجِيَّةٍ للتَّحَكُمِ في خُطوطِ المِلاحَةِ، وهُوَ ما جَعَلَ من المِنْطَقَةِ التي تَعِجُّ بِالعَديدِ من الميليشْياتِ المُسَلَّحَةِ، والجَماعاتِ العِرْقِيَّةِ المُتَبايِنَةِ، ساحَةً للتَّنافُسِ وَرُبَّما مَرْكَزًا جَديدًا للصِّراعِ بَيْنَ القُوى الكُبْرى، مُمَثَّلَةً بالولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأميركيةِ وروسيا والصّين، إلى جانِبِ قُوى عَرَبِيَّةٍ أُخْرَى، من بينِها مِصر والمملكة العربية السعودية والإمارات.

تَشْمَلُ مِنْطَقَةُ البَحْرِ الأَحْمَرِ وخَليجِ عَدَنْ جُغْرافِيًّا، سِتَّ دُوَلٍ عَرَبِيَّةٍ هِيَ مصر والسودان والمملكة العربية السعودية وجيبوتي والصومال واليمن، إلى جانِبِ إثيوبيا وإريتريا، التي تُمَثِّلُ حَسْبَ الكَثيرِ مِنَ الخُبَراءِ بَوّابَةً رَئيسِيَّةً لإسرائيل للعَمَلِ داخِلَ مِنْطَقَةِ القَرْنِ الأَفْريقِيّ، خُصوصًا بَعْدَما نَجْحَتْ إسرائيلُ في بِناءِ عَدَدٍ من القَواعِدِ العَسْكَرِيَّةِ داخِلَ أَراضِيها، من بَيْنِها قاعِدَةٌ بَحْرِيَّةٌ في جَزيرَتَيْ "دَهْلَكْ" و"مَصْوَعْ"، وقاعِدَةٌ جَوِّيَّةٌ أُخْرى في جَزيرَتَيْ "حالِبْ" و"كانْيو"، واسْتِخْدامِ عَدَدٍ من أَحْواضِ السُّفُنِ القَديمَةِ كَمَحَطّاتٍ اسْتِخْباراتِيَّةٍ، تَرْتَبِطُ بِقاعِدَةٍ رَئيسِيَّةٍ في العاصِمَةِ أَسْمَرَة، وقد لَعِبَتْ تِلْكَ القَواعِدُ دَوْرًا كَبيرًا في تَعْزيزِ التَّوَغُّلِ الإسْرائيلي داخِلَ القارَّةِ، عَبْرَ تَدْريبِ قُوّاتِ سِلاحِ الجَوِّ الأوغَنْدِيَّةِ، ومَدِّ جُسورِ التَّعاوُنِ مع قُواتِ الأَمْنِ الكينيَّةِ، وهوَ التَّعاوُنُ الذي بَدَأَ مَعَ أَزْمَةِ الرَّهائِنِ في مَرْكَزِ "وِيسْتْغيتْ" التِّجاريّ، الذي وَقَعَ في سبتمبر/أيلول عام 2013، وأَسْفَرَ عنْ مَقْتَلِ 67 شَخْصًا، على يَدِ مُسَلَّحينَ من "حَرَكَةِ شَبابِ المُجاهِدينَ" الصّومالِيَّة.
لا يَتَوَقَّفُ التَمَدَُدُ الغربيّ داخلَ بُلْدانِ مِنْطَقَةِ دُوَلِ حَوْضِ البَحْرِ الأحْمَرِ، عِنْدَ حَدِّ القَواعِدِ العَسْكَريَّةِ الإسرائيليةِ في إريتريا، لَكِنَّهُ يَمْتَدُّ لِيَشْمَلَ جيبوتي، وهيَ واحِدَةٌ من الدُّوَلِ الأَعْضاءِ في جامِعَةِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ، حَيْثُ تُعَدُّ حَسْبَما تقولُ الدكتورة ريمان عبد العال، أستاذة العلوم السياسية في كلية التجارة في جامعةِ "قناةِ السويس"، مِنْ أَبْرَزِ الدولِ المُطِلَّةِ على البَحْرِ الأحمرِ، التي تَسْتَضيفُ قَواعِدَ عَسْكَرِيَّةٍ عَلى أَراضِيها، ومن بَيْنِها قاعِدَةُ "ليمونْييه" (Camp Lemonnier) العسكريةُ الأميركِيَّةُ، التي تَرْتَكِزُ فيها قُوَّةُ عَمَلياتٍ مُشْتَرَكَةٍ للقرنِ الأفريقيّ، وأُنْشِئَتْ عام 2003 بِهَدَفِ مُكافَحَةِ الإِرْهابِ، إلى جانِبِ القاعِدَةِ الصّينِيَّةِ في جيبوتي، التي تُصَنَّفُ كَأَوَّلِ قاعِدَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ للصّينِ في الخارِجِ، وقاعدة "ماسار" (Colonel Massart) الفرنسية، التي تَضُمُّ قُوّاتٍ فَرَنْسِيَّةً وَأَلْمانِيَّةً وَإِسْبانِيَّةً، فَضْلًا عَنْ قاعِدَةٍ يابانِيَّةٍ، تَسْتَهْدِفُ بِالأَساسِ التَّصَدّي للنُّفوذِ الصّينيّ، تَحْتَ سِتارِ مُواجَهَةِ عَمَليّاتِ القَرْصَنَةِ قُبالَةَ السَّواحِلِ الصّومالِيَّةِ، التي شَهِدَتْ قَبْلَ سَنَواتٍ تَدْشينَ أَوَّلَ قاعِدَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، في إطارِ الاهْتِمامِ التُّرْكيّ بِتَوْسيعِ تَواجُدِهِ العَسْكَريّ في البَحْرِ الأحْمَرِ، عَبْرَ بَوّابَتَيْ الصّومالِ والسّودان.

يَبْدو التَّواجُدُ الإِسْرائيليّ في إثيوبيا، بِمَثابَةِ حَجَرِ عَثْرَةٍ، أمامَ أيِّ مُقارَباتٍ عَرَبِيَّةٍ يُمْكِنُ أنْ تَجْرِيَ من أَجْلِ احْتِواءِ تَنامي النُّفوذِ الغَرْبيّ في القارَّةِ الأَفْريقِيَّةِ، والدُّوَلِ المُشاطِئَةِ للبحرِ الأحمرِ، وَهُوَ تَواجُدٌ قَديمٌ، يَجْعَلُ من العَلاقاتِ الإثْيوبِيَّةِ - الإسْرائيليَّةِ، نَموذَجًا فَريدًا في العَلاقاتِ الدَّوْلِيَّةِ، حَسْبَما يَقولُ الدكتور محمود زكريا الأسْتاذُ في كُلّيَّةِ الدِّراساتِ الأفريقيةِ العُليا في جامعةِ القاهِرَةِ، حَيْثُ يَعودُ الطّابَعُ الرَّسْميّ لِهَذِهِ العَلاقاتِ إلى مُنْتَصَفِ الخَمْسينيّاتِ، مُنْذُ بَدْءِ حَمَلاتِ التَّهْجيرِ المَعْروفَةِ للجَماعاتِ اليَّهودِيَّةِ المَوْجودَةِ في إثيوبيا، والمَعْروفَةِ باسمِ "يَهودُ الفَلاشا" (Falasha)، التي مَثَّلَتْ ثاني أَكْبَرَ تَجَمُّعٍ يَهودِيٍّ في إِقْليمِ أفريقيا جَنوبِ الصَّحْراءِ، وقَدْ لَعِبَتْ كَثافَةُ التَّفاعُلاتِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَديسْ أَبابا وتلّ أَبيب، دَوْرًا كَبيرًا في تَفْعيلِ الاعْتِمادِ المُتَبادَلِ والأهَمِّيَّةِ الاسْتْراتيجِيَّةِ التي يُمَثِّلُها كُلُّ طَرَفٍ إلى الآخَرِ، وهُوَ ما يُمْكِنُ أنْ يُقَدِّمَ صورَةً واضِحَةً لِفَهْمِ طَبيعَةِ السُّلوكِيّاتِ والتَّوَجُّهاتِ التي تَتَبَنّاها إثيوبيا ـ ولا تَزالُ ـ حِيالَ العَديدِ مِنَ القَضايا المُرْتَبِطَةِ بِمِنْطَقَةِ القَرْنِ الأفريقيّ وحَوْضِ النّيلِ، والتي يُمْكِنُ رَصْدُها بِوُضوحٍ في مِلَفِ سَدِّ النَّهْضَة.
في مُواجَهَةِ كلِّ ما سَبَقَ، يَبْدو التَّواجُدُ العَرَبيّ في هذا المِلَفِّ على سُخونَتِهِ، هشًّا ولا يُلامِسُ الحَدَّ الأَدْنى من مُتَطَلِّباتِ الأَمْنِ القَوْميّ العَرَبيّ، إذْ يَظَلُّ قاصِرًا على تَحَرُّكاتٍ مُنْفَرِدَةٍ تَفْتَقِدُ التَّنْسيقَ والأَداءَ الجَماعِيَّ، ولَعَلَّ ذَلِكَ كانَ سَبَبًا في أنْ تُطْلِقَ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ، في يناير/كانون الثاني عام 2020، مُبادَرَتَها المَعْروفَةِ باسمِ مَجْلِسِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ والأفْريقِيَّةِ المُطِلَّةِ على البَحْرِ الأَحْمَرِ وخَليجِ عَدَنِ، لكنْ على الرَّغْمِ مِنْ وَجاهَةِ المُبادَرَةِ، إلّا أنَّها بَدَتْ وكَأنَّها مُجَرَّدَ حيلَةٍ سِياسيَّةٍ، اسْتَخْدَمَتْها المَمْلَكَةُ لِحَشْدِ دُوَلِ ساحِلِ البحرِ الأحمرِ، خَلْفَ حَرْبِ التَّحالُفِ الذي كانَتْ تَقودُهُ ضِدَّ الحوثِيينَ في اليَمَنِ، وَهُوَ ما يُفَسِّرُ انْطِفاءَ وَهْجِ المُبادَرَةِ بَعْدَ هُدْنَةِ أبريل/نيسان 2022، وبَدْءِ سِلْسِلَةٍ من المُحادَثاتِ بَيْنَ المَمْلَكَةِ والحوثيّينَ، بَدا مَعَها أَيْضًا أنَّ الرِّياضَ قد فَقَدَتْ شَغَفَها بِالمَجْلِسِ، الذي لَمْ يَلْتَئِمْ ولوْ لِمَرَّةٍ واحِدَةٍ منذ انْعِقادِهِ التَّأْسيسيّ، وإنْ كانَ الكَثيرُ من المُراقِبينَ يَرَوْنَ أنَّ بِالإِمْكانِ إِعادَةِ إِحْيائِهِ، ولَكِنْ شَرْطَ بِناءِ خُطَّةٍ حَقيقِيَّةٍ للأَمْنِ الإقْليميّ التَّعاوُنيّ، تَعْمَلُ على لَجْمِ النُّفوذِ الإسرائيليّ الغَرْبيّ في القارَّةِ السَّمراءِ، وتَسْتَعيدُ هُدوءَ المِياهِ المُضْطَرِبَةِ في البحرِ الأحمرِ، وتُجْهِضُ مُحاوَلاتِ تَحْويلِهِ إلى ساحَةِ حَرْبٍ بِالوِكالَة.
(خاص "عروبة 22")

