عَلى الرَّغْمِ مِنْ تَطَلُّعِ العَرَبِ إلى مِصْرَ، إِلّا أَنَّ مِصْرَ كانَتْ مُكْتَفِيَةً بِذاتِهَا قَلَّما تَنْظُرُ إلى مَا تُنْتِجُهُ بَيْروتُ أَوْ دِمَشْقُ أَوْ بَغْدادُ وَهُوَ قَليلٌ، بَلْ إِنَّ نَوْعًا مِنَ العُزْلَةِ السَّعيدَةِ كانَ طابَعَ قادَةِ الفِكْرِ وَالثَّقافَةِ المِصْريّينَ الذينَ يَتَطَلَّعونَ إلى ما يُنْتِجُهُ الغَرْبُ من أَفْكار. وَلَمْ يَأْبَهْ المِصْرِيّونَ بِالحِراكِ المَشْرِقيِّ العَرَبيِّ وَتَنامي التَّيّارِ العُروبِيِّ ثُمَّ القَوْميِّ العَرَبِيِّ، وعلى العَكْسِ من ذَلِكَ، فَحينَ أَشارَ عَبْد الوَهاب عَزّام إلى سَعْد زَغْلول بِذَهابِ العَرَبِ في وَفْدٍ مُوَحَّدٍ إلى مُؤْتَمَرِ الصُّلْحِ في باريسَ سَخِرَ من الأَمْرِ كَما هُوَ مَعْلوم.
وَفي السِّياسَةِ، كانَ كُلٌّ من "حِزْبِ "الوَفْدِ" وَحِزْبِ "الأَحْرارِ الدُّسْتوريِّينَ" ذا نَزْعَةٍ مِصْرِيَّةٍ قَليلَةِ الاكْتِراثِ بِما يَحْدُثُ حَوْلَ مِصْرَ في السِّياسَةِ أَوِ الثَّقافَة. إِلّا أَنَّ الواقِعِيَّةَ السِّياسِيَّةَ وَالجُغْرافِيَّةَ وَكَذَلِكَ اللُّغَوِيَّةَ تَفْرِضُ نَفْسَها، فَحينَ دَعَتِ الخارِجِيَّةُ البَريطانِيَّةُ إلى نَوْعٍ مِنَ الاتِّحادِ العَرَبيِّ لَمْ تَجِدْ غَيْرَ مِصْرَ لِتَقومَ بِالمُهِمَّةِ التي أَجادَ مُصْطَفى النَّحّاس القِيامَ بِها. وَأَصْبَحَتْ مِصْرُ مَقَرًّا دائِمًا لِجامِعَةِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّة. وَخِلالَ سَنَواتٍ قَليلَةٍ انْخَرَطَتْ مِصْرُ في القَضِيَّةِ الفِلَسْطينِيَّةِ وَشارَكَتْ في الحَرْبِ عامَ 1948، وَكانَ من بَيْنِ الضُّبّاطِ في حِصارِ الفالوجَةِ بَعْضًا مِمَّنْ سَيَقومونَ بِالانْقِلابِ في يولْيو/تَمّوز 1952، وَأَبْرَزُهُمْ جَمال عَبْدِ النّاصِر.
العزلة تُغذي النزعة إلى إبراز الخصائص الوطنية وما قبل الوطنية
في كِتابِهِ "فَلْسَفَةُ الثَّوْرَةِ"، يَشْرَحُ عَبْدُ النّاصِرِ مَوْقِعَ مِصْرَ مِنْ مُحيطِها العَرَبيِّ وَالإِسْلامِيِّ وَالأَفْريقِيّ. وَهُوَ ما عَمِلَ عَلَيْهِ فِعْلًا... فَإِنَّ مِصْرَ بِكُلِّ ما تَمْلِكُهُ مِنْ مُعْطَياتٍ، يُمْكِنُها أَنْ تَكونَ قاطِرَةَ العالَمِ العَرَبيِّ إلى الوَحْدَةِ، وَهَذا ما تَعَزَّزَ لَدَيْهِ بَعْدَ العُدْوانِ الثُّلاثيِّ على مِصْرَ، وَاِكْتِسابِهِ جَماهيرِيَّةً عَرَبِيَّةً غَيْرَ مَسْبوقَةٍ في التّاريخِ القَديمِ وَالحَدِيث. وَكانَتْ قَوْمِيَّتُهُ ذاتَ طابِعٍ سِياسيٍّ بَحْتٍ وَإِعْلامِيّ. فَكانَ حَريصًا على تَوْزيعِ صُحُفِ مِصْرَ وَمَجَلّاتِها وَسَلاسِلِ الكُتُبِ التي تَصْدُرُ عَنْ دورِ النَّشْرِ المِصْرِيَّةِ في البُلدانِ العَرَبِيَّةِ. وَفي الوَقْتِ نَفْسِهِ، كانَ أَشَدَّ حِرْصًا على مَنْعِ دُخولِ الصُّحُفِ العَرَبِيَّةِ إلى مِصْرَ، وَفَرَضِ رَقابَةٍ صارِمَةٍ عَلَى الكُتُبِ العَرَبِيَّةِ وَالأَجْنَبِيَّةِ، الأَمْرُ الَذي أَدّى إلى عُزْلَةِ الثَّقافَةِ المِصْرِيَّةِ عَنْ مُحيطِهَا العَرَبيِّ، وَاِنْقَطَعَتْ صِلَةُ المُثَقَّفينَ المِصْريِّينَ بِالثَّقافَةِ وَالفِكْرِ الغَرْبِيَّيْن. وَهِيَ العُزْلَةُ التي لا تَزالُ آثارُها حاضِرَةً إلى يَوْمِنا هَذا.
وَزادَ في العُزْلَةِ وَالاكْتِفاءِ الذّاتيِّ، أَنَّ مِصْرَ لَمْ تَعُدْ في الْعُقودِ الأَخيرَةِ مَصْدَرًا لِلثَّقافَةِ العَرَبِيَّةِ كَما كانَتْ في النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ العِشْرين. فَلا الكُتُبُ التي تَصْدُرُ في مِصْرَ تُوَزَّعُ في العَواصِمِ العَرَبِيَّةِ (ما عَدا المُشَارَكَةَ في المَعارِضِ) وَلا تُوَزَّعُ صُحُفُها خارِجَ حُدودِها. وَلَمْ تَعُدْ جامِعاتُها قِبْلَةَ الطَّلَبَةِ العَرَبِ الذين كانوا يوفَدونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ البِلادِ العَرَبِيَّة.
لم يعُد هناك مشروع عربي تقوده مصر أو تكون في قيادته
هَذِهِ العُزْلَةُ تُغَذِّي النَّزْعَةَ إلى إِبْرَازِ الْخَصائِصِ الوَطَنِيَّةِ وَمَا قَبْلَ الوَطَنِيَّة. عِلْمًا أَنَّ أَحَدًا لا يُمْكِنُهُ إِنْكارَ الإِرْثِ الفِرْعَوْنيِّ، وَأَنَّ في مِصْرَ مَنْ هُمْ مِنْ أُصولٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنَّ جُزْءًا مِنْ مِصْرَ ضارِبٌ في أَفْريقِيَّتِها. وَكُلُّ ذَلِكَ يَجِدُ بَعْضُ أَصْحابِ الرَّأْيِ فيهِ ما يُعَزِّزُ فَرادَةَ مِصْرَ وَأَنَّها وَطَنٌ لِأَبْنائِها، وَأَنَّها مُكْتَفيةٌ بِالوادِي. وَالوَطَنِيَّةُ المِصْرِيَّةُ لَيْسَتْ وَحيدَة. فَمَعَ نِهايَةِ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثّانِيَةِ نَشَأَتْ وَطَنِيّاتٌ عِراقِيَّةٌ وَسورِيَّةٌ وَلُبْنانِيَّةٌ وَتونُسِيَّةٌ وَغَيْرُها، يَسْتَحْضِرُ كُلٌّ مِنْها جُزْءًا مِنَ التّاريخِ يَجْعَلُهُ مَرْجِعًا لِلحاضِرِ.
لَكِنَّ فَريقًا لَا يُسْتَهانُ بِهِ مِنَ المِصْرِيّينَ يَرَى أَنَّ مِصْرَ لَمْ تَجْنِ مِنَ العَرَبِ وَالعُروبَةِ سِوَى الحُروبِ وَانْقِطاعِ النُّهوضِ وَالنُّمُوّ... مِنْ تَجْرِبَةِ الوَحْدَةِ مَعَ سورِيا، ثُمَّ الانْفِصالِ ثُمَّ حَرْبِ اليَمَنِ الباهِظَةِ الأَكْلافِ إلى حَرْبِ حُزَيْرانَ وَالهَزيمَةِ التي أَوَدَتْ بِمَشْروعِ النُّهوضِ على طَريقَةِ الاشْتِراكِيَّةِ العَرَبِيَّةِ التي نَادَى بِها عَبْد النّاصِر، بَلْ إِنَّ الهَزيمَةَ كانَتْ لِمَشْروعِ القَوْمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ الَتي جَعَلَتْ قَضِيَّةَ فِلَسْطينَ حُجَّتَها في إِقامَةِ أَنْظِمَةٍ تَسَلُّطِيَّةٍ تَمْنَعُ الرَّأْيَ وَتَداوُلَ السُّلْطَةِ بِاسْمِ المَعْرَكَةِ الكُبْرَى.
السلوك السياسي المصري يتفادى سياسات عبد الناصر التي كان بعضها يقوم على التدخّل في شؤون هذه الدولة أَو تلك
لَمْ يَعُدْ هُناكَ مَشْروعٌ عَرَبِيٌّ تَقودُهُ مِصْرُ أَوْ تَكونُ في قِيادَتِهِ، وَفي زَمَنِ السّاداتِ وَبَعْدَ حَرْبِ 1973، اِتَّسَمَتْ عَلاقاتُ مِصْرَ مَعَ البِلادِ العَرَبِيَّةِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّوَتُّرِ وَسوءِ الفَهْمِ اِنْتِهاءً بِالقَطيعَةِ بَعْدَ اتِّفاقِيَّةِ "كامْب دِيْفيد". وَخِلالَ ثَلاثِينَ سَنَةً، اِتَّبَعَ الرَّئيسُ مُبارَك سِياسَةَ تَفاهُمٍ مَعَ مُجْمَلِ البِلادِ العَرَبِيَّةِ، مَعَ حِرْصِهِ على مُتابَعَةٍ دَوْرِيَّةٍ مَعَ المَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السَّعودِيَّةِ وَسورِيا. وَأَدَّتْ ثَوْرَةُ عامِ 2011 إلى اتِّباعِ سِياسَةٍ حَريصَةٍ على عَدَمِ زَجِّ مِصْرَ في مَشاكِلِ بُلْدانِ الحُدودِ المُجاوِرَةِ لَها: ليبْيا وَالسّودانِ وَغَزَّة. وَالسُّلوكُ السِّياسِيُّ المِصْريُّ الذي يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِسِياسَةِ النَّأْيِ بِالنَّفْسِ عَنِ الخَوْضِ في صِراعاتٍ حُدودِيَّةٍ أَوْ إِقْليمِيَّة، َيَتَفادى سِياساتِ عَبْدِ النّاصِر التي كانَ بَعْضُها يَقومُ على التَّدَخُّلِ في شُؤونِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أَوْ تِلْك.
لَكِنَّ مِصْرَ بِحُكْمِ الْجُغْرافيا، إِذا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ التّاريخِ، وَبِحُكْمِ الاقْتِصادِ وَحاجَتِها إلى الدَّعْمِ العَرَبيِّ، فَضْلًا عَنِ الثَّقافَةِ، لا يُمْكِنُها إِلّا أَنْ تَكونَ جُزْءًا مِنْ هَذا العالَمِ، الذي يَتَخَبَّطُ في السِّجالاتِ الْهُوِيّاتِيَّةِ، التي لَا تُغْني عَنِ النَّظَرِ بِواقِعِيَّةٍ إلى الواقِع.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")

