العرب وطموح الوحدة

عَاشَ "الأخُ العَقيدُ" يَحْلُمُ بِوِحْدَتَيْن!

عاشَ العقيدُ القَذّافيّ يَحْلُمُ بِوِحْدَتَيْنِ: الوِحْدَةُ العربيةُ مرةً، والوحدةُ الأفريقيةُ مرةً ثانيةً، وَحينَ خَذَلَتْهُ الأُولَى راحَ ينشغلُ بالثانيةِ فَمَلَأَتْ عليهِ حياتَهُ إلى أَنْ كانَ مَعَهُ ما كان. فَظُنَّ خَيْرًا كَما قالَ الشاعرُ ولا تَسْأَلْ عَنِ السَّبَب. شَيْءٌ من هَذا المَعْنى سَوْفَ تَجِدُهُ مُتَناثِرًا بَيْنَ صفحاتِ مُذَكَّراتِ عبد الرحمن شَلْقَم، وزيرِ خارِجِيَّةِ ليبْيا الأَسْبَقِ، الذي أَصْدَرَها في 2023 عن "دار الفَرْجاني" في العاصمةِ طَرابُلُسَ، واختارَ لَها عنوانًا من كلمةٍ واحدةٍ هي: "سَنَواتي".

عَاشَ

كانَ القَذّافيّ يُحِبُّ أنْ يكونَ لقبُهُ "الأخَ العقيدَ"، ولمْ يَكُنْ يُحِبُّ أنْ يُخاطِبَهُ أحدٌ بِغَيْرِ هَذا اللَّقَبِ، وكانَ قدْ عاشَ يُطارِدُ فكرةَ الوحدةِ العربيةِ وتُطارِدُهُ، وكانَ يَرى فيها خَلاصًا منْ كلِّ ما يَجِدُهُ العربُ في حَياتِهِمْ مِنْ بَلايا وَرَزايا، وقدْ أَمْضى في ذلكَ ما يَقْرُبُ مِنَ العَقْدَيْنِ من الزمانِ، وإِذا كانَ قَدْ حَكَمَ بِلادَهُ أربعةَ عُقودٍ، فيمكنُ القَوْلُ إنّهُ قَسَّمَ السَّنَواتِ الأرْبَعينَ بالتَّساوِي بَيْنَ الوحدِة العربيةِ أَوّلًا ثمَّ الوحدةِ الأَفْريقِيَّةِ لاحِقًا.

كانَ السَّعْيُ وراءَ الوحدةِ العربيةِ كَفِكْرَةٍ قَدْ أَضْناهُ وَأَرْهَقَهُ، وكانَ حظُّ العربِ مع الفكرةِ سَيِّئًا ولا يَزالُ، وَلَمْ يُفْلِحْ لَهُمْ أيُّ سَعْيٍ في هَذا الاتجاهِ، من أَوَّلِ "الاتحادِ المَغارِبيِّ" الذي ضَمَّ ذاتَ يومٍ دُوَلَ المغربِ العربيّ بَدْءًا مِنْ ليبيا شَرْقًا، إلى موريتانيا غَرْبًا وَمُرورًا بِتونِسَ، والجَزائِرِ، والمَغْرِبِ، ولكنَّهُ سُرْعانَ ما تَوارَى واخْتَفَى ولمْ يَعُدْ لَهُ أَثَر.

تمنى صيغةً كصيغة مجلس التعاون الخليجي ولكن بين الدول العربية كلّها

وَذاتَ يومٍ آخَرَ قامَ "اتحادُ الجمهورياتِ العربيةِ" بَيْنَ مِصْرَ، وليبْيا، وسوريا، وكانَ ذلكَ في مَطْلَعِ حُكْمِ العقيدِ في بلادِهِ، غَيْرَ أنّ اتحادًا بهذا المُسَمّى سُرْعانَ ما ذَهَبَ وَصارَ أَثَرًا بَعْدَ عَيْن. وَذاتَ يَوْمٍ ثالِثٍ من عامِ 1989، قامَ "مجلسُ التعاونِ العربيّ" بَيْنَ مصرَ، والأردنِ، واليمنِ، والعراقِ، وكانَ مَجْلِسًا غَريبًا من حَيْثُ تَرْكيبَتِهِ الجُغْرافِيَّةِ، لأنّكَ حين تَنْظُرُ إلى الخَريطَةِ تَجِدُ كُلَّ دولةٍ من الدولِ الأربعِ في ناحيةٍ، وَلا تَجِدُ أَيَّ جِوارٍ مُباشِرٍ يَرْبِطُ بَيْنَها، ولذلكَ، كانَ مَصيرُ المجلسِ كَمَصيرِ اتحادِ الجمهورياتِ العربيةِ الثلاثِ، وأَيْضًا كَمصيرِ الاتحادِ المغاربيّ بِدُوَلِهِ الخَمْس.

لَمْ يَصْمُدْ في وَجْهِ الزمنِ وتحدّياتِهِ إِلّا "مجلسُ التعاونِ الخليجيِّ"، وَرُبَّما كانَ أَقْوى الأسبابِ أنَّ جِوارًا مُباشِرًا يربطُ الدولَ الأعضاءَ الستَّ بَعْضَها ببعضٍ، وأنَّ تَقارُبًا في المُستَوَياتِ الاقتصاديةِ والتَّقاليدِ الاجتماعيةِ والنُّظُمِ السياسيةِ يَجْمَعُ بَيْنَها، وأنَّ الرّغبةَ لَدى الدولِ السِّتِّ في استمرارِهِ وَفِي العَمَلِ على تَقْويَتِهِ لا تَغيبُ، وهَذا ما يَجْعَلُهُ يخطو كُلَّ فترةٍ نحوَ ما يُرَسِّخُ مِنْ وُجودِهِ ويُقَوِّيه.

تَمَنَّى الأخُ العقيدُ صيغةً كصيغةِ مجلسِ التعاونِ الخليجيّ، وَلَكِنْ بَيْنَ الدولِ العربيةِ كُلِّها، لا بَيْنَ ستِ دولٍ فَقَطْ مِنْها، وَحاوَلَ يَرْحَمُهُ اللهُ في كُلِّ يَوْمٍ مِنَ السنواتِ العشرينَ الأُولَى لَهُ في السلطةِ، ولكنَّهُ كانَ يعودُ من كلِّ محاولةٍ صِفْرَ اليَدَيْن.

كان مُهتمًا بشأن الاتحاد الأفريقيّ كما لم يهتم بشيء في حياته وذهب إلى الدعوة لتشكيل جيش أفريقيّ مُوَحّد

وَحينَ أَدْرَكَهُ اليَأْسُ اسْتَدارَ يَطْرُقُ بابَ أفريقيا، وَعِنْدَما فَعَلَ ذلكَ كانتْ هناكَ صيغةٌ من صِيَغِ التعاونِ قائمةً بالفعل اسمُها "منظمةُ الوحدةِ الأفريقيةِ"، ولكنَّها لَمْ تَكُنْ تُرْضي طُموحَهُ، فَقَدْ كانَ يَطْمَحُ إلى اتحادٍ يضمُّ الأفارقةَ كافّةً، ولكنْ من خلالِ صيغةٍ أَقْوى وَأَشَدَّ، ولا بُدَّ أنَّهُ كانَ أَسْعَدَ الناسِ يومَ تَحَوَّلَتِ المُنَظَّمَةُ الى اتحادٍ في التاسعِ من يوليو/تموز 2002، وَلا بُدَّ أنَّهُ رَأى في ظهورِ الاتحادِ إلى النّورِ مُكافَأَةً من السماءِ لَهُ على سَعْيِهِ المُتَواصِلِ وعلى نَواياهُ الصّادِقَة.

وَلَكِنَّ النوايا لَيْسَتْ وَحْدَها كافِيَةً بالتأكيدِ، وَلَوْ كانَتِ الدُّنْيا بالنَّوايا لَما كانَتْ هُناكَ أيُّ مُشْكِلَةٍ في حياةِ أيِّ شَخْصٍ، ولا في مَسيرَةِ أيِّ بَلَدٍ، بَلْ إِنَّ مِنَ النَّوايا الحَسَنَةِ ما يقودُ إِلى المَهالِك.

مِمّا يَرْويهِ الوَزيرُ شَلْقَم في مُذَكِّراتِهِ أنَّ الأخَ العقيدَ كانَ مُهْتَمًّا بشأنِ الاتحادِ الأفريقيِّ كَما لَمْ يَهْتَمَّ بِشَيْءٍ في حَياتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ مَنْ اختارَ تَصْميمَ عَلَمِ الاتحادِ باللونِ الأخضرِ، وَأَنَّهُ كانَ يَرْغَبُ في أَنْ يَتَّسِعَ العَلَمُ لِعَدَدٍ من النجومِ بِعَدَدِ الدولِ الأفريقيةِ، بل وذهب الأخُ العقيدُ إلى الدعوةِ لِتَشْكيلِ جَيْشٍ أفريقيٍّ مُوَحَّدٍ لا يُلْغِي الجُيوشَ الوَطَنِيَّة.

لا تزال أفكاره صالحة لأن يُعاد البناء فوقها عربيًا ولكن بغير أسلوبه الذي فَرَّقَ بين العرب أكثر مما جمع

وَلَكِنَّ سوءَ حظِّ العَقيدِ لازَمَهُ في الحالةِ الأفريقيةِ كَما كانَ قَدْ لازَمَهُ في الحالةِ العربيةِ، لأنَّ الاتحادَ بقيَ في مَكانِهِ مُنْذُ قامَ، ولم يَتَطَوَّرْ كَما تطوَّرَ مجلسُ التعاونِ الخَليجِيِّ مَثَلا. وفي أَحْيانٍ كثيرةٍ تمرُّ دولٌ أفريقيةٌ بِأَزَماتٍ عاصِفَةٍ فلا يَحْضُرُ فيها الاتحادُ ولا يُبادِرُ أَوْ يُؤَثِّرُ، وَيَكْفي عَجْزُهُ أمامَ الحربِ في السودانِ التي دخلتْ عامَها الثالثَ في 15 أبريل/نيسان من هذهِ السنةِ، من دونِ أنْ تكونَ لَهُ كاتحادٍ أفريقيّ مُبادَرَةٌ مُعْتبَرَةُ تُطْفِئُ نارَ الحَرْب.

مَضَى العقيدُ عَنِ الحَياةِ وفي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنَ الوحدةِ العربيةِ، وكانَ قَدْ راحَ يَلْتَمِسُها في القارَّةِ السَّمْراءِ لَمّا طالَ غِيابُها عَنْهُ في أرضِ العربِ، ولا تزالُ أفكارُهُ صالِحَةً لِأَنْ يُعادَ البِناءُ فَوْقَها عربيًّا، وَلَكِنْ بِغَيْرِ أُسْلوبِهِ الذي فَرَّقَ بَيْنَ العربِ أكثرَ مِمّا جَمَعَ، أوْ طريقتِهِ التي لمْ تكنْ لَها حصيلةٌ في النهايةِ في بَلَدِهِ ولا في غَيْرِ بَلَدِه. وَلَكِنَّ المُؤَكَّدَ أَنَّ سِياسِيًّا عَرَبِيًّا طَموحًا سَوْفَ يخرجُ ذاتَ يومٍ من بَيْنَنا، فيأخذُ حلمَ العقيدِ في وِلاياتٍ عربيةٍ مُتَّحِدَةٍ إلى دُنْيا النّاسِ، وسوفَ يكونُ عليهِ أنْ يَتَحَلّى بِالمَسْؤولِيَّةِ، فَلا يَذْهَبُ إلى تَجْريبِ ما جَرَّبْناهُ وَلَمْ نَصِلْ فيهِ إِلى شَيْء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن