تاريخِيًّا، لَمْ تَكُنْ المُعامَلاتُ التِّجارِيَّةُ في المَغْرِبِ مُجَرَّدَ تَبادُلاتٍ مادِّيَّةٍ فَحَسْب، بَلْ كانَتْ تُمَثِّلُ مَجالاتٍ حَيَوِيَّةً لِلتَّماسُكِ الاجْتِماعيّ. في هَذا السِّياقِ، كانَ الالْتِزامُ بِالقِيَمِ الأَخْلاقِيَّةِ يُعَدُّ شَرْطًا أَساسِيًّا لِلْقَبولِ الاجْتِماعيِّ وَالاقْتِصاديّ. من هَذا المَنْظورِ، يَتَّضِحُ أَنَّ مَفْهومَ "رَأْسِمالِ الثِّقَةِ" الذي تَحَدَّثَ عَنْهُ عالِمُ الاجْتِماعِ بيار بورديو (Pierre Bourdieu) يُمَثِّلُ أَحَدَ العَناصِرِ الجَوْهَرِيَّةِ في الاقْتِصادِ المَحَلِّيّ المَغْرِبِيّ. فَالثِّقَةُ في هَذِهِ السِّياقاتِ لا تَقْتَصِرُ على القَوانينِ المَكْتوبَةِ، بَلْ تَتَعَدّاها إلى "النِّيَّةِ"، التي تُعَدُّ قيمَةً دينِيَّةً وَأَخْلاقِيَّةً تُتَرْجَمُ إلى التِزامٍ سُلوكِيّ.
وَعَلَيْهِ، كانَتْ المُعامَلاتُ التِّجارِيَّةُ في الأَسْواقِ التَّقْليدِيَّةِ المَغْرِبِيَّةِ مَحْكومَةً بِعَدَدٍ من المَعاييرِ الرَّمْزِيَّة، التي لَمْ تَقْتَصِرْ على مَنْطِقِ العَرْضِ وَالطَّلَبِ البَسيطِ، بَلْ تَضَمَّنَتْ كَذَلِك قِيَمًا تَمْنَحُ من خِلالِها المَشْروعِيَّةَ وَالقَبولَ الاجْتِماعيّ. هَذِهِ القِيَمُ، التي تَتَّسِمُ بِالعُمْقِ الثَّقافيِّ، جَعَلَتْ من التِّجارَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَشاطٍ اقْتِصاديٍّ، بَلْ إِحْدى رَكائِزِ بِناءِ العَلاقاتِ المُجْتَمَعِيَّة. على عَكْسِ الاقْتِصاداتِ اللّيبيرالِيَّةِ الحَديثَةِ، التي تُرَكِّزُ على المَصْلَحَةِ الفَرْدِيَّةِ وَالتَّنافُسِيةِ، فَإنَّ المُعامَلاتِ التِّجارِيَّةَ المَغْرِبِيَّةَ كانَتْ ــ وَما زالَتْ في العَديدِ من الحالاتِ ــ قَائِمَةً على القِيَمِ المُسْتَمَدَّةِ من التَّقْليدِ الاجْتِماعيِّ، مِثْلَ الثِّقَةِ، الكَلِمَةِ، وَالنِّيَّة. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِشَكْلٍ خاصٍّ في المُدُنِ العَتيقَةِ مِثْل "فاس" وَ"مراكش"، وَكَذَلِكَ في العَديدِ من المَناطِقِ القَرَوِيَّةِ وَالبَدَوِيَّةِ حَيْثُ تُحافِظُ هَذِهِ القِيَمُ على حُضورِها في الحَياةِ اليَوْمِيَّة.
الرأسمال الذي يمثّل شبكة من العلاقات الاجتماعية المبنيّة على المصداقيّة شكّل عاملًا أساسيًا في استقرار الاقتصاد
تُعَدُّ هَذِهِ القِيَمُ هي امْتِدادٌ لِمُجْتَمَعٍ تَقْلِيديٍّ كانَ يَعْتَمِدُ بِشَكْلٍ أَساسيٍّ على الاقْتِصادِ التَّضامُنيِّ، الذي كانَ بِدَوْرِهِ يَرْتَكِزُ على الهَنْدَسَةِ الاجْتِماعِيَّةِ القائِمَةِ على الرَّوابِطِ القَبَلِيَّةِ وَالعائِلِيَّةِ المُمْتَدَّة. في ذَلِكَ السِّياقِ، كانَتْ المُعامَلاتُ تَتِمُّ في جَوٍّ من الثِّقَةِ المُتَبادَلَةِ، وَكانَ الأفْرادُ يَعْتَمِدونَ بِشَكْلٍ كَبيرٍ على رأسِمالِهِمُ الاجْتِماعيِّ في إنْجازِ المُعامَلاتِ التِّجارِيَّة. هَذا الرأسِمالُ، الذي يُمَثِّلُ شَبَكَةً من العَلاقاتِ الاجْتِماعِيَّةِ المَبْنِيَّةِ على المِصْداقِيَّةِ، شَكَّلَ عامِلًا أَساسِيًّا في اسْتِقْرارِ الاقْتِصادِ المَحَلّيّ.
وَعلى الرَّغْمِ من تَراجُعِ الهَنْدَسَةِ المُجْتَمَعِيَّةِ التَّقْليدِيَّةِ، مَعَ انْتِقالِ الأُسْرَةِ النَّوَوِيَّةِ لِتَحِلَّ مَحَلَّ البُنْيَةِ القَبَلِيَّةِ وَالعائِلِيَّةِ المُمْتَدَّةِ، ما زالَتْ هَذِهِ القِيَمُ حاضِرَةً في العَديدِ من المُعامَلاتِ التِّجارِيَّةِ اليَوْمِيَّة.
النِّيَّةُ وَالكَلِمَةُ وَالمَعْقول: أَدَواتٌ قِيَمِيَّةٌ في الاقْتِصادِ الاجْتِماعِيّ
تُعَدُّ القِيَمُ الأَساسِيَّةُ التي يُحْكَمُ بِها الاقْتِصادُ الاجْتِماعِيُّ المَغْرِبِيُّ، حَجَرَ الزّاوِيَةِ في تَحْديدِ طَبيعَةِ المُعامَلاتِ الاقْتِصادِيَّةِ، حَيْث تَتَمَثَّلُ في النِّيَّةِ وَالكَلِمَة وَالمَعْقول. هَذِهِ القِيَمُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَفَاهِيمَ نَظَرِيَّةٍ، بَلْ هِيَ مُحَرِّكاتٌ فِعْلِيَّةٌ تَضْبُطُ العَلاقاتِ التِّجارِيَّةَ وَالاجْتِماعِيَّةَ، وَتَرْتَبِطُ ارْتِباطًا وَثيقًا بِمَفاهيمَ أَساسِيَّةٍ مِثْلَ الأَمانَةِ، الصِّدْقِ، وَالعَدالَة. وَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ في هَذا الصَّدَدِ العُنْصُرَ المِحْوَرِيَّ في بِناءِ هَذِهِ العَلاقاتِ التِّجارِيَّةِ؛ إذْ إِنَّ التِزامَ الأَطْرافِ بِشُروطِ الاتِّفاقِ يَرْتَكِزُ في الأَساسِ على النِّيَّةِ المُجَرَّدَةِ التي تُعَدُّ بِمَثابَةِ ضَمانٍ مَعْنَويٍّ يُسْهِمُ في تَنْفيذِ المُعامَلاتِ بِنَزَاهَة. على الرَّغْمِ من غِيابِ العُقودِ الرَّسْمِيَّةِ في العَديدِ من الحالاتِ، تَظَلُّ النِّيَّةُ مِعْيارًا كافِيًا لِتَأْكيدِ الجِدِّيَّةِ وَالمِصْداقِيَّةِ في التَّعامُلات.
أَمّا الكَلِمَةُ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ الضَّمانِ الاجْتِماعيِّ الذي يَرْبُطُ الأَفْرادَ ضِمْنَ شَبَكَةٍ من الثِّقَةِ المُتَبادَلَة. فَالتِّجارَةُ في المَغْرِبِ لا تَقْتَصِرُ على الالتِزاماتِ القانونِيَّةِ المَكْتوبَةِ فَحَسْب، بَلْ تَمْتَدُّ لِتَشْمَلَ تَعَهُّداتٍ شَفَهِيَّةً تُعْتَبَرُ بِمَثابَةِ عَقَدٍ اجْتِماعيٍّ مُلْزِمٍ، حَيْثُ لا تُعْتَبَرُ الكَلِمَةُ مُجَرَّدَ قَوْلٍ، بَلْ فِعْلٌ يَسْتَوْجِبُ الالْتِزام. فَالكَلِمَةُ تُعَدُّ، إذًا، عُنْصُرًا أَساسِيًّا في تَأْكيدِ الالتِزامِ الاجْتِماعيِّ، وَتَسْتَمِدُّ قُوَّتَها من الثَّقافَةِ المَغْرِبِيَّةِ التي تَحْتَفِظُ بِمَكانَةٍ كَبيرَةٍ لِلْكَلامِ الصّادِقِ وَالوُعودِ المُؤَكَّدَةِ، بَلْ وَتُعَدُّ "الكَلِمَةُ" أَيْضًا قِيمَةً رَمْزِيَّةً تُزَكّي الرأسِمالَ الرَّمْزِيَّ لَدى التُّجّارِ وَمِعْيارًا لِتَمْييزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ من التُّجّارِ الذينَ يَفْتَقِدونَ إلى هَذِه القيمَة.
"الاقتصاد القيمي" يشمل تنظيمًا اجتماعيًا يضمن التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية
أَمّا المَعْقولُ، الذي يُعَبِّرُ عَنْ العَدالَةِ وَالنَّزاهَةِ في المُعامَلاتِ، فَيُعْتَبَرُ مِعْيارًا أَساسِيًّا للنَّجاحِ في المَجالِ التِّجاريِّ المَغْرِبِيّ. فَالالتِزامُ بِالمَعْقولِ في المُعامَلاتِ التِّجارِيَّةِ لا يُعْتَبَرُ تَرَفًا أَوْ مُجَرَّدَ اخْتِيارٍ، بَلْ هُوَ ضَرورَةٌ لِضَمانِ الاسْتِمْرارِيَّةِ وَالنُّمُوِّ المُشْتَرَك. فَمِنْ خِلالِ المَعْقولِ، يُنْتَظَرُ من الأَفْرادِ أَنْ يَتَعامَلوا بِمَنْهَجِيَّةٍ تَقومُ على تَوْزيعٍ عادِلٍ لِلْفُرَصِ وَالمَكاسِبَ، بِحَيْثُ يَتِمُّ احْتِرامُ حُقوقِ جَميعِ الأَطْرافِ، مِمّا يُعَزِّزُ من اسْتِدامَةِ العَلاقاتِ التِّجارِيَّة.
تُشَكِّلُ هَذِهِ القِيَمُ الثَّلاثُ ما يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ بـ"الاقْتِصادِ القِيَميِّ"، الذي يَتَجاوَزُ الأَبْعادَ الاقْتِصادِيَّةَ المادِّيَّةَ لِيَشْمَلَ تَنْظيمًا اجْتِماعِيًّا يَعْكِسُ مَبادِئَ العَدالَةِ وَالإِنْسانِيَّةِ، وَيَضْمَنُ التَّوازُنَ بَيْنَ المَصْلَحَةِ الفَرْدِيَّةِ وَالمَصْلَحَةِ الجَماعِيَّة. وَعلى الرَّغْمِ من قُوَّةِ هَذا النِّظامِ وَفَعّالِيَّتِهِ في السِّياقاتِ التَّقْليدِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُواجِهُ اليَوْمَ تَحَدِّياتٍ جَذْرِيَّةً في ظِلِّ التَّحَوُّلاتِ التي يَشْهَدُها الاقْتِصادُ العالَمِيُّ، حَيْث يُعادُ تَعْريفُ النَّجاحِ في ضَوْءِ المَنْفَعَةِ الفَرْدِيَّةِ البَحْتَةِ، مِمّا يُهَدِّدُ بِتَقْليصِ تَأْثيرِ هَذِهِ القِيَمِ في مواجَهَةِ اقْتِصادِ السّوقِ الجَديدِ الذي يُقَدِّمُ الرِّبْحَ المادِّيَّ كَأَساسٍ للنَّجاحِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ القِيَمِ الاجْتِماعِيَّةِ وَالأَخْلاقِيَّةِ، وَهُوَ ما سَوْفَ نُحاوِلُ رَصْدَهُ من خِلالِ الجُزْءِ الثّاني لِهَذا المَقال.
(خاص "عروبة 22")

