ننتقل تلقائيًا، بالانطلاق من هذا التنبيه، من الريع كحالة محدّدة وكسلوك فردي، إلى الريع كمجال للفعل الشامل، فيتحوّل الاقتصاد في كلّيته أو في جزء كبير منه، إلى اقتصاد في الريع، على النقيض وعلى أنقاض اقتصاد الإنتاج.
اقتصاد الريع المقصود في هذا الباب، هو ذاك الاقتصاد المتمحور حول خلق وحماية واستغلال مجموعة من الامتيازات والعطايا وفرص الأعمال، لكن بمنأى عن المنافسة التي يستوجبها السوق، وبمعزل عن النجاعة الاقتصادية التي تفترضها قواعد العرض والطلب.
خبايا أشكال الريع مغلّفة بسياسات ظاهرها "خدمة المصلحة العامة"، والغاية منها خدمة مصالح فئوية
القاعدة الأساس في الاقتصاد إياه، تكمن في تسييد اعتبارات الزبونية والمحاباة والقرب لتحصيل امتيازات حصرية، لا تخضع في منطقها وآليات اشتغالها لمنطق السوق: مداخيل متعددة غير مبرّرة، عقود وقروض ومأذونيات، وموارد وتصريحات، ورخص واستثناءات وإعفاءات وتخفيضات في أسعار الفائدة... إلخ، هي سلوكيات لا تمتّ إلى منطق السوق والمنافسة بِصِلة، لا بل قد تضرّ بهما.
بيد أن ما يُميّزها، على عكس الرشوة مثلًا أو اختلاس المال العام، أنها ممارسة شرعية، غالبًا ما تتمّ في ظلّ القوانين والتشريعات. إنها تضمن لصاحبها تحصيل موارد ومداخيل "شرعية"، لكن عيبها وخطيئتها أنها ليست متأتية من عملية إنتاجية، تفرز فائض القيمة، ولا تتمّ في توزيعها انطلاقًا من طلب حدّده السوق وارتضاه فاعلوه.
ثم هي موارد تستأصل حصريًا من وضعيات قرب، عامة أو خاصة، جلية أو مضمرة، تكون خلفها شبكات مترابطة، مبنية على علاقات الترضية والتزكية والمجاملة والمحاباة وما سواها.
وباعتبارها كذلك، فهي ليست ممارسة اجتماعية من فعل بعض الأقليات المحتكرة للسلطة السياسية والاقتصادية فحسب، بل قد تتجاوزها لتطال فضاءات أخرى، فتمتد لتشمل الأحزاب والنقابات والأندية والجمعيات وبعض العائلات المميّزة وما سواها.
الكلّ ينتظم في أطر تستهدف التأثير أو الضغط (لحد الابتزاز)، بغرض الحصول على أكبر نصيب من الثروة الاقتصادية أو الاجتماعية، المادية منها والرمزية على حد سواء.
ولذلك، نجد أن الريع يأخذ أشكالاً مختلفةً ومتباينةً، قد نُعاين بعضها لأنها تتمظهر بالفضاء العام، كرخص النقل العمومي أو استغلال المناجم والمقالع مثلًا، لكننا لا نستطيع معرفة خبايا باقي الأشكال، لأنها غالبًا ما تكون مغلّفة بسياسات عمومية ظاهرها "خدمة المصلحة العامة"، فيما الغاية منها خدمة مجموعة مصالح فئوية محددة.
تمنح السلطة السياسية امتيازات واستثناءات لأطراف خاصة محددة، نظير خضوعها وتماهيها مع ما تريده السلطة
بيد أنّ الريع قد يتأتى أيضًا من عدم تدخّل الدولة أو تقاعسها، أو غضّها الطرف عن بعض السلوكيات بالسوق، من قبيل "سماحها" لتشكّل احتكارات ضخمة ببعض القطاعات، فتتحوّل وضعياتهم الاحتكارية إلى حالات من شطط الوضعيات المهيمنة. يتحوّل موقع الاحتكار هنا بتحصيل حاصل، إلى حالة ريع، لأن لا منافسة من شأنها زعزعة موقعه.
نظام الريع هنا، هو جزء من نظام اقتصادي واجتماعي ومصدر أساس من مصادر الشرعية. إنه عقد ضمني، غير مكتوب، تمنح السلطة السياسية بموجبه امتيازات واستثناءات وعطايا وهدايا لأطراف خاصة محددة، نظير خضوعها وانصياعها وتماهيها مع ما تريده السلطة أو ترتضيه.
إنه عنوان من عناوين الدولة المفترسة، ودليل حجر على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي، بعيدًا عن أية مراقبة من لدن هذه السلطة المضادة أو تلك. مقابل ذلك، فكلّما تدمقرط النظام وعمّت المحاسبة، وساد منطق تقديم الحساب للناس، فإنّ هذه الوضعيات ستنهار حتمًا، لأنها ستعدم ظروف الحماية كي تصمد وتستمر.
(خاص "عروبة 22")