نوبل في الاقتصاد للشعب المصري

إذا كانت جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية، واسمها الرسمي جائزة Sveriges Riksbank نسبة إلى البنك المركزي السويدي، تمنح سنويا للأفراد الذين يقدمون مساهمات استثنائية في مجال الاقتصاد، فإن الشعب المصرى مستحق لهذه الجائزة لهذا العام عن جدارة واستحقاق. المساهمة العملية التي قدّمها المصريون في هذا الباب تعد بصدق مساهمة استثنائية في الجانب التطبيقي لعلم الندرة، والذى نعرفه جميعا بعلم الاقتصاد.

الشعب المصري يعيش ما يقرب من 30% منه تحت خط الفقر، ويتراوح نصيب الفرد من الناتج الإجمالي للدولة بين 2800 دولار و3600 دولار (حسب تفاوت سعر صرف الدولار بين السوقين الرسمية والموازية) مقارنة بـ 12,600 دولار/فرد كمتوسط عالمي. هذا الشعب يعاني من معدلات تضخم في الأسعار تبلغ 40% سنويا، وتبلغ حوالى 68% لأهم مجموعة سلعية (الأغذية والمشروبات) بتقدير متحفّظ. وعلى الرغم من الزيادة السكانية الكبيرة التي تلتهم معظم النمو في الناتج المحلي الإجمالي، مع انخفاض واضح في إنتاجية العامل المصري وتأهيله، فإن مصر استضافت ما يقرب من عشرة ملايين وافد من الدول المجاورة على خلفية الأحداث المشتعلة إقليميًا خلال الأعوام القليلة الماضية. ومع ندرة الدولار الأمريكي في الأسواق، واعتماد الدولة عليه بشكل أساس لسداد فاتورة استيرادية تصل إلى 90 مليار دولار سنويا، وخدمة الدين الخارجي الذي بلغ رصيده ما يقرب من 165 مليار دولار، فإن الكثير من الصدمات السعرية تنتقل إلينا من خلال الدولار، سواء بسبب انخفاض المعروض السلعي نتيجة تراجع جبري في الاستيراد، أو نتيجة لارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه، مشفوعا بسياسات التشديد النقدي في الولايات المتحدة، والتي ارتفعت بمستويات أسعار الفائدة من قرب الصفر خلال العام الماضي إلى 5,5% حاليا. كل ذلك يأتي مع صدمات عنيفة أصابت سلاسل الإمداد العالمية بسبب آثار ما بعد الجائحة، والحرب الروسية الأوكرانية.

فإذا كانت ماكينة الإنتاج المحلية لا تقوى على تعويض ما تفقده الأسواق من واردات سلعية نهائية أو وسيطة (مدخلات إنتاج)، فإن ذلك يعزز من ارتفاع الأسعار؛ إذ يرتفع الطلب الكلي بشدة، وينخفض في ذات الوقت العرض من السلع والخدمات في السوق المصرية. وبالتالي فقد أصبح المواطن البسيط الذي يحصل على الحد الأدنى للأجور (وقدره ثلاثة آلاف جنيه شهريا) مطالبًا بسداد فاتورة السكن والمنافع من كهرباء ومياه وغاز أو بوتاجاز.. إلى جانب مصروفات الطعام والشراب والكساء والمدارس والعلاج والانتقالات... في وقت يمكن لوجبة غداء واحدة بسيطة لأسرة متوسطة الحجم أن تلتهم وحدها ما يقرب من 10% من هذا الدخل، وفقا لتقديرات منسوبة إلى نائب وزير الزراعة العام الماضي (أي قبل القفزات الكبيرة في الأسعار لهذا العام). مما يعني أن هذه الأسرة يمكن أن تأكل عشر وجبات فقط طوال الشهر، دون أن تسدد أية فواتير أو التزامات أخرى. فإذا نزلنا بتقديراتنا إلى ثلث هذا المبلغ المقدر (أى أن تكلفة الوجبة تصل إلى مائة جنيه لأسرة من أربعة أفراد مثلا) فإنها تحصل على وجبة واحدة يوميا في الشهر، بكامل مبلغ الراتب الذي يحصل عليه رب الأسرة. فإذا قامت الدولة بتوفير 300 جنيه لتلك الأسرة في صورة دعم تمويني (بعد الزيادة إلى 75 جنيها للفرد)، فإنها تتمكن من سداد قيمة ثلاث وجبات إضافية طوال الشهر. بالتأكيد هذه الأسرة لا يمكن أن تعيش بهذا المبلغ، ولا بد لكل أفرادها أن يعملوا (حتى الأطفال مع الأسف) إذا ما أرادوا أن يتموا الشهر. كما أن تلك الأسرة ستكون في حاجة إلى تحويلات ومساعدات من المجتمع في صورة زكوات وصدقات وسُلَف لسداد التزامات أساسية، لا يمكن أن يحيا الإنسان دونها. كل ذلك ناهيك عن رفاهية جودة التعليم أو الخدمات الصحية أو المواصلات أو أي شيء متصل بالترفيه مثلا رغم ضرورته للاتزان النفسي للبشر!

المائة جنيه إذن أكبر من أن تنفق على وجبة واحدة لمحدودي الدخل، إذا رفضت الأسرة عمالة أطفالها (لاحظ أنها أسرة ملتزمة بتحديد النسل). كما أن تلك الأسرة من المحتمل أن ترفض مد اليد بطلب المساعدة من الجمعيات الخيرية وأهل الخير. ناهيك عن احتمال أن يكون رب هذه الأسرة لا يعمل في الحكومة أو القطاع العام، ومن ثم فإن عمله في القطاع الخاص أو غير الرسمي، لا يلزم رب عمله أن يدفع له الحد الأدنى للأجور فورا!.. النتيجة المنطقية هي نقص حاد في التغذية، وتهرّب من سداد فواتير المنافع المستحقة للدولة، والبحث عن أكثر من عمل في اليوم والليلة، والاقتراض بغير غطاء.. مما ينعكس على الصحة والإنتاجية (التى هي منخفضة من الأساس). وهذا التدهور في الصحة العامة للمواطنين، لا يقابله إنفاق مناسب على الخدمات المجانية للعلاج، أو على منظومة متكاملة للتأمين الصحي (وهي أزمة تعاني منها حتى أغنى دول العالم).. ومن ثم يعجز هذا المواطن المطحون عن سداد تكاليف علاجه وسداد ديونه، وتتحول أسرته فجأة إلى حمل إضافي على المجتمع المثقل بالأحمال.

إذن القدرة الاستثنائية للشعب المصري على التدبير تستحق التوقّف عندها طويلا. تكيّف مختلف الطبقات مع الظروف الجديدة والصدمات العالمية والمحلية والارتفاع الجنوني فى أسعار كل شيء، هو أمر يمكن تدريسه في كليات الاقتصاد، ولا أقول الاقتصاد المنزلي، لأن تلك القدرة على التكيّف تتحدّى الكثير من نظريات الاقتصاد السلوكي ورشادة المستهلك ونظرية الثمن، بل وتتحدّى المنطق أحيانا! وترقى إلى مستوى اليقين بأهمية مدلول لفظ «البركة» في الرزق. لكن المؤكد أن تلك القدرة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. حتى المعجزات الإلهية أقامها الله حجة على الناس، لكنه تعالى قيّدها فى الزمان والمكان. الأمر إذن يتطلب دراسة جادة من وزارة التضامن الاجتماعي، لكيفية تدبير الأسر الفقيرة والمتوسطة لمعايشها خلال العامين الأخيرين، مع ضعف القدرة على الادخار، وبالتالي ضعف القدرة على السحب من أية مدخرات (معدل الادخار المحلي لمصر يتراوح بين 6% إلى 8% سنويا متضمنا الادخار الحكومي).. تلك الدراسة سوف نتعلّم منها الكثير من العبر والدروس، ونتعرّف على التحوّلات الكبيرة المتوقّعة في تركيبة الطبقات في مصر خلال السنوات القادمة، والتي من المحتمل أن تتضرر فيها الطبقات المتوسطة بشكل مخيف، نظرا لقلة مرونتها وقدرتها على التكيّف، بالمقارنة بالطبقات الأدنى التى اعتادت وتمرّنت عبر عقود على الاستغناء تباعا عن كثير من الضروريات.


لقراءة المقال كاملًا إضغط هنا

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن