ثقافة الاختلاف، وقد تم إدراكها على هذا النحو، هي الترجمة السلوكيّة والعقائديّة لما تواضع عليه الفكر الغربي، مند عصر الأنوار، ومع فولتير أحد رموز ذلك العصر، وهي ما نقول عنه إنّه "التسامح".
ثقافتنا العربيّة المعاصرة تقدّم للعالم الصورة المعكوسة للثقافة الحواريّة
وفي حديث سابق عن الثقافة الحواريّة تحديدًا، سعيتُ إلى القول إنّ الثقافة العربيّة الإسلاميّة، في العهود التي تواضعنا على نعتها بالعصر الذهبي، تمثيل للثقافة الحواريّة في إحدى صورها البهيّة. ثم انني ألمحتُ إلى أنّ الثقافة العربيّة الإسلاميّة المعاصرة، في العديد من تجلّياتها، إن لم يكن في الغالب الأعمّ من أحوالها، ترسم صورًا لما كان نقيضًا لثقافة الاختلاف في "العصر الذهبي"، لا بل إنها تنهض دليلًا ناصعًا على انزياح فكر الغيريّة والاختلاف إلى الظلّ في مقابل بروز وسطوة الفكر النقيض لذلك الفكر.
أقول، آسفًا، إنّ ثقافتنا العربيّة المعاصرة تقدّم للعالم، من حولنا، وتعكس في الوعي العربي، الصورة المعكوسة للثقافة الحواريّة، إذ إنّها، وآسف لتكرار القول، صورة نموذجية لثقافة الانغلاق. وفي حديثي اليوم أودّ أن أبيّن عن بعض مظاهر السلبيّة والانغلاق في الخطاب وليكن البدء بالوقوف قليلًا عند ذلك الخطاب في أحد أكثر تجلّياته بؤسًا وشقاءً.
لعلّ الخطاب الأكثر نصاعةً في التعبير عن هذه الثقافة السالبة للفكر النقدي والعاكسة لفكر الانغلاق على الذات ورفض الغير المخالف، هي تلك التي يبيّن عنها خطاب الإسلام السياسي تحديدًا. بيد أنني أسارع إلى القول إنّ لهذا الخطاب مزيّة يكاد ينفرد بها في الفكر العربي المعاصر، وهي صفة المباشريّة في القول واجتناب المواربة. لا يسعى خطاب الإسلام السياسي إلى الوضوح الشديد في العبارة فحسب، فهو يكره المخاتلة والتمويه ويجتنب الغموض والالتباس في العبارة، بل إنه في كل مناسبة، وحين إحكام الانغلاق على الذات وإقامة الحواجز في وجه كل فكر، قد يُستشفّ منه إمكان مدّ الجسور وربط سبل التواصل والاتصال.
أدركَت عبارة "الإسلام السياسي" اليوم رتبةً من الاتّساع والتمدّد غدا الخلط فيها كثيرًا شائعًا بين الحديث عن الإسلام في الحياة العمليّة للناس ليلامس، عند جمهرة غير قليلة من الناس، مجال الحياة الروحيّة وليكون أمرًا يتعلّق بشؤون التدبير الاجتماعي لشؤونٍ ما، فلا يكون مقتصرًا على تدبير أمور السياسة وشؤون الحياة العامة فحسب. واجتنابًا لكل غموض ممكن في الحديث عن "الإسلام السياسي" ومجاله فإنني أختصر القول في العبارة التالية: أقصدُ بالإسلام السياسي كل الحركات التي تتوسّل بالإسلام وبالشريعة تحديدًا، من أجل الدعوة إلى إسقاط الدولة الحديثة وإقصاء كل أشكال التنظيم السياسي والتدبير الاجتماعي كما يفهمه الفكر السياسي الحديث ويشرّع له، بكيفيّات مختلفة أحيانًا، الفقه الدستوري المعاصر.
وحيث إنه ليس من موضوعي أن أتحدث عن "الإسلام السياسي" من حيث النشأة والوجود العيني المعاصر، مثلما أنّ المجال لا يتسع لي للقول فيه من حيث صلته بالفكر السياسي في الإسلام، فإنني أكتفي بالقول إنّ فكر "الإسلام السياسي" يقوم على التسليم بجملة من المطْلقات ويقضي بالتسليم بالتقابل بين مجموعة من الأطراف داخل أزواج مفهومية (=الزوج المفهومي هو الزوج الدي يجمع بين الضدّين ليقيم بينهما علاقة التناقض والنفي المتبادلين: الليل/النهار، الخير/الشر، السلب/الايجاب...). وفي خطاب الإسلام السياسي تقابلنا الأزواج المفاهيمية الكبرى التالية: الإسلام/الجاهلية، الولاء/البراء، الحاكمية/السيادة، الإسلام/الديموقراطية، الدولة الإسلاميّة/ = الطغيان، دولة الكفر، دولة الشيطان).
الفكر العربي المعاصر يبلغ في خطاب "الإسلام السياسي" الدرجة العليا من الانغلاق على الذات
من الطبيعي أنّ استقامة فهم خطاب "الإسلام السياسي" لا يكون تامًّا إلا بالإحاطة بكل زوج من الأزواج المذكورة على حدة في خطوةٍ أولى، ثم توخّي العلائق المنطقيّة بينها في خطوةٍ ثانية، بيد أننا نقتصر على التنبيه الى أنّ فحص مضامين الأزواج المشار اليها يحمل على القول إنها تحمل، في العلائق التي تقوم بينها وفي النتائج الحتميّة التي تسلم إليها، على التسليم بأنّ الفكر العربي المعاصر يبلغ، في خطاب "الإسلام السياسي"، الدرجة العليا من الانغلاق على الذات ويقدّم للثقافة الحواريّة ولفكر الاختلاف الصورة المطلقة النقيضة.
(خاص "عروبة 22")