في الأصل تعددت تعريفات الفساد وتنوعت، منها ما برز على مستوى الفرد، سلوكًا فرديًا، أو على مستوى أوسع وأشمل بوصفه "مؤسسة فساد"، نشأت وترعرعت في ظل منظومة حكم فاسد استبدادي متوارث من مخلفات أنظمة الحكم الاستعمارية. إلّا أن هذا المصطلح بما يحتويه من مفرادت وتعابير مثل، سوء استخدام السلطة، في القطاعين العام والخاص، الإتجار بالنفوذ، الرشوة، التهرب الضريبي والتلاعب وغياب الشفافية، وغيرها، شكّل في الممارسة على مرّ العصور ما يشبه شبكة "مافيا" منظّمة قائمة بذاتها، تتحكم بمقدرات الشعب العربي وثرواته.
أما كيف بدأت مأسسة الفساد وتشكّلت وإلى ماذا تنتهي، فمن المفيد العودة إلى مقال: "الفساد في العالم العربي: من أين يبدأ وكيف ينتهي؟" لننتقل تاليًا إلى تحليل معمّق لهذه الظاهرة المتفشية في منطقتنا العربية، بوصفها تضعنا أمام نهج فاسد سائد ومتسيّد على مستوى الأنظمة أكثر مما هو فساد أفراد، بعدما تطورت الحالة الفردية من الفساد إلى حالة تشابك وانصهار مع "أخطبوط" متمدّد تتداخل خطوط مصالحه بين الشأنين العام والخاص.
وأبرز ما أظهرته هذه الحالة، هو تكريس سلطة الفساد في كل إدارات الدولة ومؤسساتها؛ التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، فهي لم تستثنِ حتى أجهزة أمنية رسمية سخّرتها لحماية منظومة الفساد بدلًا من مكافحتها، وصولًا إلى قيام "دولة فساد" حاضنة لهذه المنظومة داخل المؤسسات العامة.
وإذ لا يقتصر الفساد على النطاق العربي بل هو بطبيعته ظاهرة عابرة للحدود والأوطان وصل إلى حد التغلغل في المنظمات الدولية وفي الدول المتطورة كما المتخلّفة، وفي الأنظمة الديمقراطية كما الديكتاتورية، يبقى أنّ درجاته تتفاوت بين دولة وأخرى، كلّ حسب واقعها وظروفها وثرواتها.
وعلى المستوى العربي، تظهر مؤشرات الفساد العالمية هذا التفاوت في درجات الفساد بين دول عربية، مثل الإمارات (67) وقطر (58)، وهي تحتل مرتبة جيدة بين الدول التي تصنف ذات النزاهة العالية، والدول الأخرى التي تحتل مراتب منخفضة مثل سوريا (13) الصومال (12) واليمن (16)، وهي أرقام تضع هذه الدول في أسفل مدركات الفساد، لا سيما وأنها تعاني صراعات أهلية وحروبًا دموية ساهمت في تفاقم الفساد وتفشيه أكثر في مجتمعاتها.
وعلى مقلب آخر، يشكّك كثر في وجود "قياسات محدّدة" حاسمة في إعطاء صورة دقيقة وحقيقية للواقع بشكل عام، إذ لا يمكن أن يؤدي "غياب الرشوة" المباشرة عن مؤسسات إحدى الدول العربية، إلى إلغاء واقع سيطرة فئة حاكمة في هذه الدولة أو تلك على مقدّرات الدولة وحصر استغلال موارد الدولة بالنافذين فيها وبرجال الأعمال المقربين منهم، الأمر الذي يضعنا أمام شكل من أشكال "الفساد المشرعن والمقونن".
والأسوأ، في هذا السياق، أننا نجد في العديد من الدول العربية، تشريعات وقوانين وحتى هيئات تمّ تشكيلها لمكافحة الفساد ومحاربته، لكنها تصبح مع مرور الوقت وتقادم الزمن متآلفة مع حالة الفساد المسشترية، الأمر الذي دفع كثر من أبناء الوطن العربي الساعين إلى مكافحة الفساد، إلى التشديد على أهمية المبادرات الفردية في التصويب على مكمن العلة في البلاد العربية، والتي تتمحور حول عدم وجود الوعي والفهم الكافيين لطبيعة الفساد وحقيقته في البلاد العربية، الأمر الذي ساهم ويساهم في إخفاق التجارب الهادفة إلى محاربته، بل وتشويه مراميها، من دون أن إغفال سوء استخدام بعض المظاهر الديمقراطية التي دخلت إلى بلدان عربية، خصوصًا مع الموجة الثالثة للتحوّل الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، والتي شكلت خطوات شكلية تجميلية للأنظمة التسلطية الفاسدة.
وهكذا، تأصلت آفة الفساد في بلداننا العربية تحت وطأة سيطرة نخب حاكمة غير مؤهلة حولّا المنافع العامة إلى منافع خاصة لأركان الحكم والمحظيين والمقربين من مركز القرار، في البرلمان والقضاء والأمن والإدارات، وأيدتها فئة من المدافعين عن هذا النظام، منتفعين أو مغرّر بهم. وتقاربت هذه المجموعات مع قيادات القطاع الخاص وتبادلوا المصالح، فتعمّقت "ثقافة الفساد" في ذهنية موظفي القطاع العام، بعدما تمّ إضعاف مناعتهم عبر تقويض مداخيلهم الشرعية من أجل تحفيزهم على الاندماج في منظومة الفساد الرسمية.
ومع تراكم كلفة الفساد في الدول العربية وتفاقم مظاهره، باتت تأثيراته تتدحرج كـ"كرة ثلج" في مختلف اتجاهات الحياة العامة والخاصة. وتجمع التقديرات الدولية، ومن بينها البنك الدولي (الذي يؤخذ عليه أنه ساهم في تكريس الفساد وتغذيته من خلال إغراق البلدان النامية بالقروض التي تستخدمها السلطات الحاكمة في مشاريع استثمارية غير مفيدة لنموّ الدول وتعزيز مقدّرات شعوبها) على أنّ كلفة الفساد بلغت أكثر من 2.6 تريليون دولار، أيّ ما يساوي 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وهو مبلغ يُهدر سنويًا نتيجة الفساد الذي يرفع كذلك من تكلفة الأنشطة الاقتصاديّة بسبب قلة الاستثمارات وهدر الموارد الطبيعية وتفاقم المديونية، وغيرها.
أما في الوطن العربي، فلا أرقام دقيقة تؤكد حجم "فاتورة الفساد"، غير أنّ الخبراء الاقتصاديين والماليين يؤكدون أنها "كلفة باهظة جدًا" تُدفع من جيوب الشعوب العربية، وانعكاساتها بالغة السلبية على كافة نواحي حياتهم وقطاعاتهم الحيوية، حيث لا يمكن تأسيس قطاع تعليم ناجح على سبيل المثال في ظل منظومة فساد حاكمة، بل إنّ ضرب القطاعات على تنوّعها يُعتبر نهجًا مقصودًا لكبح الوعي اللازم لمحاربة الفساد.
وبينما تشير الأبحاث إلى أنّ "قطاع النفط من أكثر القطاعات فسادًا في الوطن العربي" لاعتبارات تتعلق بحجم الصفقات النفطية، خصوصًا أنه عادة ما تتركز إيرادات هذا القطاع لدى الحكومات ولا يوجد أي رقابة مجتمعية عليها، يليه القطاع العسكري ثمّ قطاع التشييد.
ويخلص الأستاذ والباحث في قسم العلوم السياسية لقرع بن علي، في ورقة بحثية حملت عنوان "نظام الفساد كوحدة تحليل لدراسة النظم السياسية العربية" إلى أنّ أنظمة الفساد في الوطن العربي تشترك في 3 خصائص أساسية، حتى ولو أنها تأخذ أشكالًا مختلفة، الأوّلى هي، التسلطية كون غالبية الدول تعاني الحكم التسلطي بدرجات متفاوتة، والثانية هي خاصية تحفيز الجيش للتدخل في السياسة، إذ يلاحظ أن أكثر الدول العربية فسادًا هي التي يكون للجيوش فيها دور سياسي (...)، أما الخاصية الثالثة، فهي الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، لا سيما وأنّ نظام الفساد يشكّل نقطة مركزية في إنتاج الحروب العسكرية والصراعات السياسية والنزاعات الداخلية.
وهكذا، يمكن تصنيف الأنظمة العربية من منظور نظام الفساد إلى ثلاثة أصناف، الأول، نظام الفساد الريعي، الذي يسود في أغلب الدول العربية النفطية وهو يتغذى من الاقتصاد الريعي ويعيق التنمية الاقتصادية. ونظام الفساد الأوليغارشي، ويسود في الدول العربية غير النفطية حيث ينتظم الفساد في صورة تحالفات أوليغارشية عائلية أو قبلية، ونظام الفساد الطائفي، الذي يبني نفسه على أساس التقسيم الطائفي للمجتمع ويغلّب الطائفة على الدولة فيسود حكم زعماء الطوائف.
في المحصلة، يظهر الفساد في بلداننا العربية على شكل سياسة عامة منتهجة، واضحة وصريحة، تتسبّب بإعاقة التنمية وتراجع النمو الاقتصاديّ وتقليل فرص الاستفادة من الموارد الطبيعية، لتصبح أولويات السلطة تحقيق المكاسب الشخصية على حساب تنمية الشعوب والمجتمعات وتطويرها... أما مسار التغيير المطلوب فهو شاق وطويل وأمامه الكثير من العقبات، وأبرزها الحاجة إلى اقتلاع منظومة الحكم الفاسد من جذورها، والتأسيس لنظم جديدة تكرّس العدالة والديمقراطية والتنمية والحرية في الوطن العربي.
(خاص عروبة22 - إعداد حنان حمدان)