واضح أن هذا المشهد ليس غريبًا عن القارئ في الوطن العربي، لأنه من غير المستبعد أن يكون القارئ نفسه سبق أن كان ضحية لمثل هذه التصرفات، فيجد نفسه مضطرًا لتقديم رشى لتسهيل معاملاته الإدارية. تقديم الرشى هو الوجه الأبرز الذي قد يتعرّض له المواطن في عالمنا العربي.
لكن الفساد لا يشمل فقط تقديم الرشاوى للموظفين الحكوميين مقابل الحصول على خدمات ولكنّه يشمل كذلك قائمة من النشاطات التي تؤدي إلى الفساد، ومنها اختلاس الأموال العامة واستخدام الموظفين لمناصبهم بغرض الإثراء دون تعرّضهم لأية عواقب قانونية.
الفساد هو أكبر العقبات التي تحرم العالم العربي من أن ينعم بالرخاء
كما يشمل الفساد ضعف قدرة الحكومة على احتواء الفساد في القطاع الحكومي، كثرة الوثائق الإدارية المطلوبة التي تفتح الفرص أمام الفساد، تعيينات ذوي القربى في الوظائف العامة، عدم مراعاة تضارب المصالح لدى الموظفين الحكوميين، عدم حماية الشهود الذين يبلغون عن الفساد، استحواذ الدولة على مصالح خاصة، عدم وصول الجمهور للمعلومات الحكومية.
الفساد هو أكبر العقبات التي تحرم بلدان العالم العربي المتوسّط والفقير من أن ينعم بالرخاء لأنه يضع قيودًا على الحرية الاقتصادية في كل وجوهها، حرية العمل وحرية المبادرة الريادية وحرية التجارة وحرية الإستثمار الدولي. إنّ الفساد يحرم المواطنين من المشاركة في إنتاج الثروة في بلدانهم والأجانب من الاستثمار الذي يعود بالنفع على البلد والمحليين من التنعّم بحياة منخفضة التكلفة وذات جودة مرتفعة.
معلوم أنّ منظمة شفافية دولية هي منظمة غير حكومية متخصّصة في قياس الفساد في العالم ولديها تقارير سنوية ترتّب فيها البلدان في سلّم الفساد من 0 الأكثر فسادًا إلى 100 الأكثر نظافةً. وهي تركز على إدراك رجال الأعمال والخبراء لمستوى الفساد في القطاع الحكومي. ومن الأهمية تأمّل تقارير المنظمة في هذا السياق.
الفساد يتسبّب في حدوث تفاوتات كبيرة غير مشروعة في الدخل لأنه يجعل الإقتصاد تحت سيطرة نخبة جشعة تنتج أقلّ لأنها تحتكر السوق بفضل صداقتها مع الحكومة التي تصدر التشريعات والقرارات المقيّدة للإنتاج والتجارة وتجعل الاقتصاد حكرًا على مجموعات اقتصادية دون أخرى وهكذا تصبح في البلد أقلية غنية فاحشة وأغلبية تعيش في فقر مدقع.
النخب الحاكمة السياسية والاقتصادية تستخدم البيروقراطية من أجل غلق الأسواق أمام المنافسين
ويتسبّب الفساد في نشوب الصراعات والحروب. فانتشار الفساد سببه كثرة القيود الحكومية للوصول إلى الفرص الاقتصادية وحصرها في النخبة الحاكمة وأصدقائها من النخب الاقتصادية. يتسبّب ذلك الاحتكار السياسي والاقتصادي في الإحباط لدى المجموعات المحرومة وهكذا تنشأ الرّغبة في تحدي هذا التحالف الاحتكاري الجشع، وقد تبدأ الأمور بحراك شعبي مسالم ليتطوّر إلى تمرّد عنيف أو انقلاب قد يصل إلى حد المطالبة بالإنفصال. وتُظهر بيانات عن الفساد في العالم العربي أنّ المناطق التي تسودها حروب وصراعات هي بلدان يستشري فيها فساد كبير مقارنة بالبلدان الأخرى (اليمن، سوريا والعراق والسودان).
كانت تلك الأحداث إحدى نتائج الفساد العالي الطافح عربيًا، ونتيجة كذلك لإغلاق الأبواب في وجه شباب مؤهل وطموح، لم يتجاوزه همّه المشاركة الاقتصادية في بلده. شباب مدرّب تدريبًا عاليًا يريد الوصول إلى الوظائف، ورياديون اكتشفوا فرصًا إقتصادية أرادوا أن تنعم بلدانهم بها، ورجال أعمال مُنعوا من الوصول إلى الأسواق المحلية والدولية.
لقد كانت البيروقراطية بالمرصاد، وكانت النخب الحاكمة السياسية والاقتصادية المتحالفة والمتآلفة تستخدم البيروقراطية من أجل غلق الأسواق أمام المنافسين والحفاظ على الأسعار الاحتكارية المرتفعة حتى تزداد ثراءً في وجه منافسين كان يمكنهم أن يقدّموا السلع والخدمات بطرق أقلّ تكلفة وبأسعار منخفضة للمواطنين.
وعندما ينخفض الفساد في بلد ما يزداد ثراء أغلبية أفراده، حيث تدلّ البيانات أنّ الأمم التي تحقق أعلى مستويات الثراء الفردي هي الأدنى من حيث درجات الفساد، فالبلدان التي يصل فيها دخل الفرد إلى أكثر من 36 ألف دولار تُعتبر الأقل فسادًا من البلدان الأفقر التي لا يتجاوز دخل الفرد فيها سنويًا 6 آلاف دولار وهي بلدان فيها فساد كبير.
في التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية الصادر في 2022 عن مستوى الفساد في بلدان العالم في القطاع الحكومي، احتلت الدنمارك المرتبة الأولى عالميًا بعلامة 90 نقطة من 100، وفي البلدان العربية جاءت الإمارات العربية المتحدة في أفضل مرتبة عربية وهي 27 من 180 دولة بعلامة 67 من 100 نقطة، وحصلت قطر على المرتبة 40 والمملكة العربية السعودية 54 من 180 بلدًا.
تحتلّ البلدان العربية الثلاثة الغنية مراتب أحسن من العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية. ثم تأتي في الأخير في ذيل ترتيب البلدان الأكثر فسادًا في العالم العربي، سوريا واليمن والعراق وجزر القمر وليبيا والسودان وهي بلدان تمزّقها الحروب والصراعات.
لمنح الوظائف الحكومية على أساس الكفاءة لا الولاء الشخصي... وإتاحة المعلومات الحكومية للجمهور
لا يزال تحدي مكافحة الفساد يُعتبر تحديًا عالميًا، فمعدّل الفساد في القطاع الحكومي في العالم حسب منظمة الشفافية الدولية هو 43 من 100، حيث إنّ ثلثي بلدان العالم تقع تحت علامة 50 من 100 وهناك 26 بلدًا تراجع في الترتيب و155 بلدًا لم يُحرز أيّ تقدّم في سلّم الشفافية والنظافة.
لا زال أمام العالم العربي الكثير من المراتب ليتخطّاها ليصل إلى مصاف البلدان الشفافة والنظيفة، لا زال أمامه عمل كبير لتحرير الاقتصاد من القيود البيروقراطية والرخص الإدارية الكثيرة أمام المستثمرين والمبادرين الاقتصاديين، ومعاقبة الإثراء الفاحش نتيجة سوء استخدام الوظائف واختلاس المال العام، ومنح الوظائف الحكومية على أساس الكفاءة لا الولاء الشخصي، ومراعاة عدم تضارب مصالح الموظفين الشخصية مع مصالح المواطنين، وتقديم ضمانات قانونية قوية لحماية المبلغين عن الفساد، وإتاحة المعلومات الحكومية للجمهور ليطلع عليها وليتمكّن الجمهور من مساءلة المسؤولين الحكوميين.
وفي عصر شبكات التواصل الاجتماعي لا ينبغي تجريم نشر المعلومات ولو كانت غير صحيحة لأنها قد تفيد في الكشف عن الفساد. فالدول التي بها فساد كبير هي التي سارعت في تجريم نشر الأخبار الكاذبة ولم تستفد من هذا التشريع في تحسين ترتيبها في سلّم منظمة الشفافية الدولية لمستوى الفساد المدرك.
(خاص "عروبة 22")