ما تعنيه المقولة الكوسمبولوتية هو ما عبّر عنه الفيلسوف الألماني كانط في أعماله الأخيرة بحقّ الضيافة الشاملة بين شعوب العالم من منظور العلاقة التضامنية بين البشر والشعوب التي تختلف عن العلاقات بين الدول والمجموعات السياسية المنظمة.
ومع أن كانط انخرط في مثال السلم الأزلي الذي تبنّاه العديد من فلاسفة التنوير، إلا أنه انفرد بهذا التأسيس القانوني لحقوق الشعوب في مقابل روابط الدول التي تتطلّب قانونًا يضبطها ويخرجها من تصادم القوة والمصالح على غرار خروج الأفراد من حالة الطبيعة.
الفيلسوف الأمريكي انتوني أبياه طوّر هذا المفهوم في ضوء الحقائق الراهنة، مفرّقًا بين الكونية التي تقتضي وحدة البشرية في مقوّمات قيمية ووجودية متماثلة، والكوسمبولوتية التي تجمع بين الهوية الإنسانية الجامعة وحقوق الاختلاف الثقافي التي لا مناص من الاعتراف بها.
المشروع القومي اعتبر العروبة وعاءً ثقافيًا وأيديولوجيًا لحركية التحديث التاريخي للمجتمعات
ما لا بدّ من تبيينه هو أنّ الفكرة الكونية ظهرت في السياق الغربي في صيغتين كبيرتين: الكلّي اليوناني الذي يعني الحد المنطقي الجامع، والذاتية الحديثة التي تعني وحدة البشرية من حيث الوعي والإرادة، أي الأفكار والتشريعات القابلة للتعميم كقاعدة كلّية للحقيقة والفعل.
لقد تعرّض المفهومان لنقد جذري باعتبارهما لا يتجاوزان التحديدات الصورية المجرّدة، على حساب السياقات الثقافية والاجتماعية المتمايزة، ومن هنا ظهرت في العقود الأخيرة مقاربات بديلة تقوم إما على الكونية النقاشية التداولية وفق معيار التقاء الذوات (نموذج هابرماس) أو الكونية المعولمة في صيغتيها الرقمية الاستهلاكية أو ما بعد القومية (ثنائية الإمبراطورية والجمهور لدى أنتوني نيغري ومايكل هاردت).
بالرجوع إلى المشروع القومي العربي، نرى أنه منذ محطته الأولى لم يكن انكفائيًا منغلقًا في خصوصية الثقافة أو الهوية، بل تبنّى القيم الإنسانية الكونية واعتبر العروبة وعاءً ثقافيًا وأيديولوجيًا لحركية التحديث التاريخي للمجتمعات العربية.
لقد انطلق من التحديد الهيغلي للمطلق بصفته يتجسّد في أشكال تاريخية خصوصية، عبّر عنها هيغل في بعض نصوصه بروح الشعب الذي يترجم الكونية الإنسانية في بناء ثقافي متعين ومحدود.
قوة المشروع القومي العربي تكمن في أبعاده الإنسانية الرحبة
ومن هنا ندرك النزعة التاريخانية القوية لدى سراة الفكر القومي العربي من ساطع الحصري إلى قسطنطين زريق.. وتعني هذه النزعة الإيمان الراسخ بالوحدة النوعية للإنسانية وقدرة العروبة على التعبير الأمثل عن هذه الوحدة من خلال القيم المرجعية في الحضارة العربية. وبطبيعة الأمر ليست هذه المرجعيات جامدة، بل أنها قادرة على تطوير وتحديث مضامينها بحسب مقتضيات الحداثة التي تتأسّس على مثال حرية الإنسان واستقلاليته التي لا تتحقّق إلا في إطار قومي جامع على عكس ما اعتبره الليبراليون من انفصام بين النظام الاجتماعي المدني والهويات العضوية الجوهرية.
واذا كان بعض المفكّرين العرب (مثل عبد الوهاب المسيري أو طه عبد الرحمن ووائل حلاق) سلكوا في السنوات الأخيرة طريق الدفاع عن حقّ الاختلاف الثقافي العربي في مقابل المركزية الغربية ورصد مظاهر التحيّز المعرفي النظري في الدراسات الإنسانية التي تدّعي الموضوعية العلمية والتجرّد المنهجي، إلا أننا نعتقد أنّ قوة المشروع القومي العربي تكمن في أبعاده الإنسانية الرحبة التي تعبّر عنها مقولة الكوسموبولوتية في تأكيدها على الوحدة الأخلاقية الجوهرية للإنسانية التي لا تلغي الاختلاف والتنوّع الفكري والقيمي.
إنها الكونية التي عناها المفكر البرتغالي ميغل تورغا بقوله "الكوني هو المحلّي بدون أسوار".
(خاص "عروبة 22")