الحقيقة أن النقطة الأولى في تقييم تجربة الرجل يجب أن تنطلق من السياق التاريخي الذي عاشه والأولويات السياسية التي كانت مطروحة في مصر والعالم العربي، وأهمّها الاستقلال الوطني، فالغالبية العظمى من الدول العربية من المشرق إلى المغرب مرورًا باليمن كانت تحت الاحتلال الأجنبي وكانت غالبية الجماهير العربية تعتبر التحرّر من الاستعمار وليس الديمقراطية هو هدفها الأول الذي ناضلت من أجله لعقود طويلة حتى نجحت في تحقيقه.
يقينًا، غياب الديمقراطية في عهد عبد الناصر كان إحدى سلبيات حكمه الكبيرة ولكن في الوقت نفسه فإنّ كل تجارب التحرّر الوطني في العالم كلّه - باستثناء الهند - لم تكن أيضًا ديمقراطية، لأنّ العالم في منتصف القرن الماضي وخاصة دول الجنوب لم تضع الديمقراطية ودولة القانون واحترام حقوق الإنسان كأولية حقيقية كما هو الآن في عصر "ما بعد التحرّر الوطني".
ومن هنا، فإنّ بعض التجارب "المسخ" التي تحتفل بعبد الناصر من أجل تبرير غياب الديمقراطية في عصرنا الحالي تُسقط فارقًا أساسيًا يتعلّق بأنّ محاربة الاستعمار في الخمسينيات كانت تمثّل معركة حقيقية اختلف الناس حول ما إذا كان من الضروري أن تتغافل عن الديمقراطية لصالح التحرّر الوطني أم لا، أما في الوقت الحالي وبعد أن حقّقت الدول العربية استقلالها منذ أكثر من 60 عامًا فأصبحت أولوية شعوبها هي بناء دولة القانون والديمقراطية وتكريس قيم العلم والمهنية والابتكار وليس ترويج الخرافات أو الإحالة للشعارات الكبيرة والهتافات الرنانة التي سبق وأطلقها البعض قبل هزيمة 67، وكانت ربما أحد أسبابها.
أوّل زعيم عربي يعترف بالهزيمة ويستقيل، وهو مشهد لم نرَه من قبل ولا من بعد في عالمنا العربي
أما المسألة الثانية فتتعلّق بأهمية القراءة النقدية، وليس الانتقامية، لتجربة عبد الناصر وأهمّها سياساته الخارجية، فالبعض ينتقد عبد الناصر لدورة الخارجي الواسع الذي اعتبره أكبر من إمكانات مصر وقدراتها، كما حمّله كلّ الهزائم التي عرفها العالم العربي في مواجهة إسرائيل حتى نسي أو تناسى أنّ أول هذه الهزائم كان على يد النظم الملكية السابقة على إعلان الجمهورية المصرية في حرب 48، وأنّ هزائم العرب لم تأتِ مع عبد الناصر ولم ترتبط بنظام جمهوري أو ملكي.
فقد انتصر الرجل في معركة 56 ونجح في تغيير الخريطة العالمية والدولية وبزوغ عصر التحرّر الوطني وأفول الاستعمار، وأصبح قائدًا ملهمًا لشعوب العالم الثالث وساهم في تأسيس نظام عالمي جديد وفق كلّ الكتابات الغربية والعربية العلمية، صحيح أنه مسؤول عن هزيمة 67 وطبيعي أن يهاجَم باعتباره زعيمًا خسر حربًا خسارة مؤلمة وكبيرة، ولكن ليس على اعتبار أنّ تاريخه كلّه هزائم.
يقينًا، لا يمكن تبرير هزيمة 67 والتقليل من مسؤولية عبد الناصر الأولى والمباشرة عنها، لكن في الوقت نفسه لا بدّ من التذكير بأنه أوّل زعيم عربي يعترف بالهزيمة ويستقيل في يونيو 1967 وهو مشهد لم نرَه من قبل ولا من بعد في عالمنا العربي، وحاول أن يصحّح من أخطاء نظامه وتحدّث عن الديمقراطية والتعدّدية الحزبية، وأعاد بناء الجيش وخاض حرب الاستنزاف حتى توفي في 1970.
أما المسألة الثالثة عند تقييم عبد الناصر فهي تتعلّق بأنه كان يمثّل "حالة حقيقية" - حتى لو اختلف معها كليًا أو جزئيًا - في ظل حالة الزيف التي يعيشها العرب حاليًا، فكلّ معاركه كانت حقيقية ومتسقة مع ما يرفعه من شعارات، فقد أعطى استقلالًا للسودان رغم أنف بعض المتعصّبين في مصر الذين يتباكون على أيام "ملك مصر والسودان" لأنه كان يناضل من أجل تحرّر بلاده وكل دول العالم الثالث من الاستعمار، فكيف يتحوّل إلى سلطة احتلال في السودان؟، كما لم يفرض الوحدة على سوريا بالقوة ويكرّر مأساة صدام حسين في الكويت لأنه آمن بأنّ الوحدة خيار شعبي فتقبّل الانقلاب على الوحدة حتى لا يتقاتل المصري والسوري.
عبد الناصر الحقيقي هُزم في 67 وهو يحارب إسرائيل وليس ليبيا أو السودان تحت حجة الوحدة أو الضمّ "الإجباري"، كما إنه بنى أكبر حركة تصنيع في تاريخ مصر وبنى مشروعها الأعظم هو السدّ العالي، وأحدث تطويرًا حقيقيًا في التعليم والثقافة والزراعة وحقّق العدالة الاجتماعية، وكانت رموزه في الصحافة والإعلام محمد حسنين هيكل - جرى في هذا الشهر الاحتفال بمئويته - وغيره وليس رجال الشتائم والتسريبات، وأخيرًا لم تكن ثورته مستمدة من خطب "الكلام الفارغ" بل هو أول من عرف الثورة بكلام "غير ثوري" حين قال إنها: "علم تغيير المجتمع".
أهمية تقييم تجربة عبد الناصر في فهم معارك عصره وعدم إسقاطها على العصر الحالي
لم يقل عبد الناصر إنّ الغرب يتآمر علينا وفي الوقت نفسه سعى للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بدعم غربي، وكانت قضية محاربة الاستعمار ونيل الاستقلال هدف كلّ شعوب العالم الثالث دفعوا من أجله التضحيات الجسام، وأنّ بلدًا عربيًا مثل الجزائر دفع بمفرده مليون شهيد من أجل نيل استقلاله الوطني، أما استدعاء قضية "النضال" ضد الغرب في سياق لا علاقة له بأي نضال، إنما بمشاكل الأداء العام وأزمات منظومتنا السياسية والاقتصادية والمهنية فهو لن ينجح في تحقيق أي حشد أو نجاح في الداخل أو الخارج.
تبقى أهمية تقييم تجربة عبد الناصر بعد 53 عامًا على رحيله في فهم معارك عصره وعدم إسقاطها على العصر الحالي، وأيضًا عدم السقوط في خطر التقديس وفخّ العداء والكراهية، فالأول لا يساعد في تقدّم العالم العربي الذي يحتاج إلى قراءة نقدية عميقة وجراحية لمنظومته السياسية والاجتماعية والثقافية لتشمل كلّ التجارب المعاصرة ومنها التجربة الناصرية بإيجابيتها وسلبياتها، أما فخّ العداء والكراهية فخطورته أنه لا يختلف مع توجهات تجربته فهو مشروع وبديهي، إنما يعادي بالأساس فكرة "الزعيم الشعبي" وقيمة اختيارات الشعوب، ويعتبر أنّ الرسالة يجب أن تكون واضحة للجميع أنّ الشعب غير قادر على الاختيار، وحين اختار وأحبّ ودعم زعيمًا بوزن عبد الناصر فيجب أن يقتنع الجميع بأنه أخطأ وفشل في كل شيء حتى تنسف فكرة أحقيه الشعب في الاختيار من الأساس.
(خاص "عروبة 22")