تشير القراءة التاريخية إلى أنّ التفكيك قد عرف الطريق إلينا؛ دولًا ومجتمعاتٍ من خلال الانقسامات السياسية والإثنية، عقب 1967. انطلق، التفكيك، يسري كـ"الفيروس" في الجسم العربي. بدأ بطيئًا غير محسوس نظرًا للتماسك، المرحلي، الذي فرض نفسه بفعل الإرادة المواطنية القاعدية لتجاوز تداعيات ما جرى في السنة المذكورة. ولكن الفيروس انطلق يُحدث فعله "التفكيكي" بحلول منتصف 1975 مواكبًا لاستهداف أهمّ إنجاز عرفته المنطقة في مسارها النهضوي، منذ تحديث محمد علي، ألا وهو "القاعدة الإنتاجية المادية الصناعية المستقلّة" أو يوليو الثورة/الدولة؛ التي حقّقت قدرًا هامًا من المواطنة الاقتصادية والاجتماعية ودرجة من التماسك الوطني/الاجتماعي...
كان هذا الإنجاز هو محاولة لإصلاح ما أفسدته - خلال الأربعينيات - "بورجوازية كانت تلعب خارج الحلبة"، بحسب تعبير "صلاح عيسى". إلا أنه في مقابل التماسك الوطني عقب 1967؛ يقول العالم الاقتصادي الكبير الراحل "فؤاد مرسي" (1925 - 1990) في كتابه العمدة المرجعي: "هذا الانفتاح الاقتصادي - 1976": "جرت تنازلات لقطاعات خارج الرأسمالية الوطنية ذات طبيعة تجارية ومضاربة وبيروقراطية"؛ تكوّنت هذه القطاعات من عنصرين اجتماعيين جوهريين هما: أولًا: فئات تجارية ربوية وتجارية صناعية، من التجّار والمموّلين والمقاولين والوكلاء، في مجالات التصدير والاستيراد، في تجارة الجملة ونصف الجملة، في الصفقات العقارية، في المقاولات والتوريدات. ومن ثم غلب الطابع الطفيلي عليها، نتيجة انشغالها بالمضاربات وأعمال الوساطة والسمسرة والتهريب والسوق السوداء... وثانيًا: فئات بيروقراطية في قيادات القطاع العام والدولة يقومون بتجميع ثروات كبيرة غير قانونية..
بدأت تتفكّك أواصر المجتمع بفعل غياب التوزيع العادل للعوائد
وتحت مظلة قانون الانفتاح أو القانون 43 لسنة 1974 والذي تناقض - آنذاك - مع الدستور. باتت الرأسمالية الجديدة التي تتشكّل من المقاولين، والسماسرة ووكلاء الشركات العالمية وأغنياء الريف، المتناقضة مع الرأسمالية الوطنية الانتاجية، القاعدة الاجتماعية ليوليو المضادة وقوام التحالف السلطوي الحاكم/الساداتي، ونتج عن هذا التحوّل أن بدأت تتفكّك أواصر المجتمع: طبقيًا، ودينيًا، وثقافيًا، وسياسيًا.. إلخ، بفعل غياب التوزيع العادل للعوائد. ما انعكس في العديد من الاختلالات المجتمعية من جهة، ومن جهة أخرى تجلّى في الكثير من الظواهر المستجدة مثل: الهجرة بنوعيها: الداخلي والخارجي؛ "سعيًا وراء الرزق" حسب "نادر فرجاني"، والعودة إلى الاحتماء وطلب الرعاية من الجماعات الأولية، والاعتماد على مِنح الجمعيات الخيرية.
حلّت يوليو البيروقراطية/المباركية - بعد يوليو المضادة - تعمل في ضوء سياسات الليبرالية الجديدة التي صارت الموجّهة لحركة الاقتصاد المعولم التي تقوم على كل من: الخصخصة والسوق المفتوح وتصفية الأصول الصناعية الوطنية، والنتيجة بحسب "محمود عبد الفضيل" كوّن "الأثرياء الجدد ثرواتهم من خلال مجالات التداول والوساطة والمقاولات والعلاقة برأس المال الأجنبي، وليس من خلال عمليات التراكم الإنتاجي الإنمائي". وهو ما أضرّ أيّما إضرار بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة للطبقة الوسطى وبطبيعة الحال الطبقة الدنيا.
وبالأخير تم إضعاف الاندماج المجتمعي، والإخلال بالعقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة، وإحلال التكافلات الرأسية التي تقوم على الروابط العائلية والعشائرية والطائفية والقبلية محل التكافلات الأفقية القائمة على الشراكة المواطنية (بغض النظر عن الاختلاف) عبر الأحزاب والنقابات وكيانات المجتمع المدني. بلغة أخرى، العودة لما قبل الدولة الحديثة.
تجديد العقد الاجتماعي لمنطقتنا على قاعدة مشروع تنموي إنتاجي يحقّق العدالة والمواطنة التامة
في هذا السياق، توفّرت بيئة لاستفحال "فيروس التفكيك" ليدفع إلى تشظي الهويات، والارتداد إلى أشكال التنظيم القبل حديثة، وتنامي حدة الاستقطابات، وتصاعد النازعات الدينية والمذهبية الصلبة والناعمة عبر السجالات الفضائية والرقمية، وإعلاء المصالح الذاتية لدوائر الانتماء الأولية على حساب المصلحة الوطنية العليا... إلخ، ما قد ينتهي بمجتمعاتنا إلى ما يصفه عالم الاجتماع السياسي الفرنسي "برتران بادي": "التحلّل القومي" بتجلّياته المختلفة كما نشاهد في بعض المواضع.
إننا في حاجة إلى دعم المناعة الوطنية/المجتمعية ضد "فيروس التفكيك" لمواجهة كلّ أنماط اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، والاختلالات الاجتماعية، وكلّ ما يؤدي إلى الاستبعاد والتهميش...، ولن يتأتّى هذا ما لم يتمّ تجديد العقد الاجتماعي في السياقات المختلفة لمنطقتنا على قاعدة مشروع تنموي إنتاجي يحقّق العدالة والمواطنة التامة (لا تتوقّف فقط عند البعدين الاقتصادي والاجتماعي وإنما تمتدّ للسياسي/المدني والثقافي) للجميع.
(خاص "عروبة 22")