وجهات نظر

فكـرةُ الوحـدة: الشّـركـاءُ والحاضـنة

حين يتحـدّث منّا من يتحـدّث عن ثـقافـةٍ للوحـدة، وعن حاجتنا وحاجـة الوحدة إلى أن تكون ثـقافـةً عامّـة؛ وحين يُـفصِّـل بعضَ التّـفصيـل في البيان فيقول إنّها لن تكون عامّـةً وجامعـةً إلاّ مـتى كانت ثقافـةً عابرةً للمجتمعات والكيانات العربيّـة ومتعاليـةً - شيئًا من التّـعالي - عن الثّـقافيِّ الوطنيِّ الخاصّ بكـلٍّ منها على حِـدَة، فليس المُراد بكـلّ ذلك أن يقال إنّ ثـقافة الوحدة تأتي المجتمعاتِ العربيّـةَ من خارجها أو "من فـوق" في صورة ثـقافـةٍ "جاهـزة" لا تنتظـر أكثـر من الاستقبال والتّوطين والتّـلَـقُّن. هـذا اعتـقادٌ خاطئ، أو فهـمٌ سيّء لمعنى "ثـقافة الوحـدة"؛ ولعلّـه يكون من بقايا يقيـنـيّـات كلاسيكيّـة دَرَجَـت على وضْـع فواصلَ قاطعةٍ بين الوحدويِّ والوطنيِّ ونـظرتْ إلى كـلٍّ منهما بما هـو نقـيضٌ للثّـاني.

فكـرةُ الوحـدة: الشّـركـاءُ والحاضـنة

ما من ثـقافـةِ وحـدةٍ تَـنْـبَع من فـوق لأنّـه ما مِـن فـوقٍ هناك أصلًا؛ حيثُ كياناتُ العرب القائمة تستوي في وطنـيّاتها وجغرافـيّـاتها السّياسيّـة في حـالٍ كيانيّـةٍ مُـفْـرَدةٍ لا جماعيّـة، أي بما قـد يجعل الجماعيَّ يعلو، مثـلاً، على الوطـنيِّ ويفرض عليه أحكامه.

فئة المثقّفين يَكل إليها التّاريخ إنتاج نظريّة الوحدة وتزويد الأمّة برؤًى وتصوّراتٍ حول إمكاناتها المتاحة 

الوطن العربيّ ما فـتِـئ يعـيش اليوم - وحتّـى إشعارٍ آخـر- في نطـاق مشهـدٍ جيوسياسيّ تُـؤثِّـثُـه كيانات وطنيّـة مستـقـلّـة ذاتُ سيادة لا سلطان فيه لدولـةٍ على أخريات إلى الحـدّ الذي تكون أوامـرُها فيه جامِـعةً ومجسِّـدةً لما هـو وحـدويّ (= فـوقيّ). لذلك فإنّ مَـقام ثقـافةِ الوحدة مختلفٌ، هنا، عمّا ينطبع في الأذهان. إنّها (= ثقـافة الوحدة) ليست معطًـى جاهـزًا ناجـزًا تُمليه جهـةٌ مّـا عليا وصيّـة على الأمّـة، بل هـدفٌ يُـبْـنَـى من طرف نخب الأمّـة جمعاء من مواقعها الوطنيّـة المختلفة. نعم، قـد يكون هناك تفاوُتٌ في التّـطوُّر الثّـقافيّ بين بلدٍ عربيّ وآخـر- وهو أمـرٌ طبيعيّ - لكنّه لا يغيّـر ما بين النّخـب العربيّة الثّـقافـيّـة من مشتَـرَكات قادرة على تحويل المثـقّـفين العرب - من مختلف الوطنيّـات - إلى شركاء في عمليّـةِ استيلادِ ما هـو جامعٌ ووحدويّ بين العرب. وهـذا يصدُق على نخبة المثـقّـفين في حاليْن منها/منهم: سواء في أُطرهم المؤسّسيّـة أو من حيث هم أفـراد منتجون للفـكـر والثّـقافـة.

إذا كان من تحصيل الحاصل أنّ فئة المثـقّـفين هي التي يَـكل إليها التّاريخ، والتّقسيم الاجتماعيّ للعمل، أمْـرَ التّـخصّص في إنتاج نظريّـة الوحدة وتزويد الأمّـة: مجتمعاتٍ ودولًا وحركـاتٍ اجتماعيّـةً، برؤًى وتـصوّراتٍ حول عملـيّـة التّوحيـد وإمكاناتها المتاحة، وقواها الاجتماعيّـة، ومراحل إنجازها، والفرص المتاحة لاستـقرار نجاحها في عالمٍ جديد مضطرب...، فإنّ مهمّةً جليلة من هذا الحجم تمتـنع إن لم تجد لها حاضـنةً اجتماعيّـةً ترعاها وتُحيط المجهود المعرفيّ لهذه الفئة الحيويّـة بالدّعـم.

واحدة من معضلات ثقافة الوحدة في الوطن العربي تتمثّل في غياب حاضنة تلك الثّقافة

صحيح أنّ مفكّـرين وحدويّـين عـربًا أَسْـدوا للأمّـة أجزل الخِـدْمات المعرفيّـة في هذا الباب من غير أن يُحيطهم نظامٌ أو حزبٌ سياسيّ بالرّعاية الماديّـة، لكنّ تلك كانت حالَ قـلّةٍ قليلة منهم فيما كان الأكثـرُ منهم مرفودًا من قـوّةٍ سياسيّة حاضنة: في السّلطة أو في المجتمع؛ وهو رِفْـدٌ أثبت كم كان ناجـعًا لإخراج أطروحاتهم إلى الوجود، ولكي تَـفْـشُـوَ فشـوًّا واسعًا في بيئات اجتماعيّـة وثـقافـيّة مختـلفة.

هي حقبـةٌ تصرّمت لتتلوها أخـرى لا نظامَ سياسيّـًا فيها ولا حركـةً يقفان وراء فكـرة الوحدة ويَـحْدِبان عليها وعلى أقلامها وألسنتها. وما أغـنانا عن القول إنّ واحدةً من معضـلات ثـقافة الوحدة، في الوطن العربيّ، تتـمثّـل في غياب حاضنة تلك الثّـقافة...؛ الغياب الذي يُـؤْمَـل في أن يرتفع سريعًا لكي تُضَـخَّ الحياةُ ثانيـةً في ثـقافـة الوحدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن