وجهات نظر

"وكالة عربية للإغاثة"... ضرورة إنسانية وسياسية مُلحّة للمنطقة!

أظهرت كارثتا فيضان درنة وزلزال المغرب المدمّرين الحاجة الماسة لتأسيس وكالة عربية للإغاثة تحت مظلة الجامعة العربية أو عابرة للحدود القُطرية على الأقل.

لأسباب متعدّدة هناك مؤشرات على تزايد الكوارث ذات التداعيات الإنسانية في المنطقة، سواء جراء عوامل سياسية وأمنية، حيث تشهد العديد من الدول العربية حروبًا أهلية واضطرابات، أو بسبب العوامل المناخية، حيث يُعتقد أنّ المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم تضررًا من التغيّرات المناخية، وهو ما ظهر في العاصفة "دانيال" التي ضربت ليبيا، والتي يُعتقد أنها ازدادت قوةً بسبب ارتفاع درجة حرارة البحر المتوسط عن المعتاد بسبب الاحتباس الحراري، وقبل ذلك كانت قد شهدت السودان عدّة موجات من الفيضانات.

وفي شمال سوريا الخاضع للمعارضة الموالية لتركيا، دمّر زلزال فبراير/شباط 2023 العديد من المناطق وعزلها عن العالم في ظلّ غياب دولة مركزية قوية تساعد السكّان وانشغال تركيا بكارثتها الخاصة. أظهرت هذه الكارثة أكثر من غيرها الحاجة الماسة لمؤسّسة عربية عابرة للحدود تقوم بتنسيق وتنفيذ مهام الإغاثة.

يضيف تأسيس مثل هذه الوكالة لجهود الدول العربية ولا ينتقص منها

وخلال السنوات الماضية، ارتفع شأن ما يمكن تسميته بدبلوماسية الإغاثة في المنطقة، حيث بات لدى العديد من الدول العربية قدرات جيّدة في مجال التعامل مع الكوارث، وخاصة دول الخليج، وبالتحديد السعودية والإمارات وقطر والكويت، إضافة لمصر والجزائر، ولعبت هذه الدول دورًا مهمًا في الكوارث التي شهدتها المنطقة، حيث كان زلزال تركيا فرصة للعديد من الدول العربية لتطبيع العلاقات مع أنقرة في هذا الظرف الإنساني، وكانت الدول العربية باعتراف المسؤولين الأتراك من أسرع البلدان في التحرّك وأكثرها سخاءً، وتكرّر ذلك في كارثة درنة وإلى حد ما زلزال المغرب.

كما أنّ جهود العديد من مؤسسات المجتمع المدني في بعض الدول العربية، خاصة دول الخليج بالمجال الإغاثي، أثبتت نجاحًا ميدانيًا فاق في كثير من الأحيان نظيراتها الأممية والغربية، حسبما قال مسؤول عربي سابق معنيّ بهذا الملف لكاتب هذه السطور. ولكن هذه الجهود المقدّرة للعديد من الدول العربية والمجتمع المدني فيها، لا تنفي الحاجة لمؤسسة أو وكالة عربية للإغاثة.

ويقول المسؤول السابق أنّ أحد أسباب عدم تنفيذ هذه الفكرة، هو أنّ العمل الإغاثي بات أداةً دبلوماسية فعّالة، وبالتالي فإن بعض الدول تفضّل أن تقدّم هي يد المساعدة للمنكوبين لا أن يتم الأمر عبر وكالة عربية عابرة للحدود القُطرية.

ولكن إنشاء مثل هذه الوكالة لن يكون بديلًا أبدًا عن دور الدول العربية الرئيسية بإمكانياتها الكبيرة، إنما سيكون مكمّلًا ومنسّقًا فيما بينها، إذ يضيف تأسيس هذه الوكالة لجهود الدول ولا ينتقص منها.

وإضافة للدور التنسيقي بين جهود الإغاثة القُطرية، يمكن أن تكون هذه الوكالة بمثابة بيت خبرة عربي في العمل لمواجهة الكوارث عبر تشكيلها فرقًا من الخبراء العرب المدرّبين والذي سيكتسبون خبرة تدريجية من تراكم التجارب، كما أنها يمكن أن تكون بمثابة بنك معلومات لمواجهة الكوارث وتقدّم من خلال تكرار التجارب المختلفة نماذجًا عربية للعمل أثناء الكوارث وحتى محاولة منع حدوثها، إضافة لامتلاكها حدّا أدنى من المعدّات والعاملين ومواد الإغاثة اللازمة للتحرّك السريع حال وقوع كارثة.

من شأن هذه الوكالة جذب تبرّعات أممية ودولية وشعبية

من شأن هذه الوكالة أيضًا، جذب تبرّعات أممية ومن دول مثل اليابان والصين أو الاتحاد الأوروبي، حيث تحظى الجامعة العربية ومنظومة العمل العربي المشترك بشرعية دولية كبيرة، رغم كلّ المشكلات والإحباط المحيط بظروف العمل العربي المشترك، ولذا سوف يكون لدى المؤسسات الدولية النظيرة رغبة في العمل مع مؤسسة منبثقة من جامعة العرب، وهو أمر ظهر في حرص العديد من الدول الكبرى والكيانات الإقليمية على نسج علاقة سياسية وتنظيمية مع الجامعة العربية خلال السنوات الماضية.

مثل هذه الوكالة العربية للإغاثة الإنسانية، سيكون لديها القدرة كذلك على جمع التبرّعات الشعبية من الدول العربية دون أن تخشى الحكومات من أن تذهب هذه التبرّعات للأيدي الخاطئة، وخلال كارثتي درنة والمغرب وقبلهما زلزال سوريا، كان هناك رغبة واضحة لدى عدد كبير من المواطنين العرب للتبرّع لأشقائهم في هذه الدول ولكن لم يكن هناك قناة عربية شرعية لفعل ذلك، ويُعتقد أنّ بعض المنظمات الدولية قد استفادت من هذه الرغبة الشعبية وجمعت تبرّعات بالفعل.

فالتعاطف الأخوي التلقائي الذي تُظهره الشعوب العربية مع بعضها البعض بشكل لافت أثناء الكوارث يمكن أن يوفّر موردًا مهمًا لتمويل هذه الوكالة، خاصة إذا أثبتت كفاءتها.

قد تكون إحدى العراقيل أمام تأسيس وكالة غوث عربية هي المخاوف من الخلافات والبيروقراطية التي تُتّهم بها منظومة العمل العربي المشترك، ولكن الواقع أنه مع الإقرار بصحة هذه المخاوف جزئيًا، هناك ميل للمبالغة فيها، فمنظومة العمل العربي المشترك بها تجارب ناجحة بقدر ما بها تجارب محبطة، فالعديد من الاتفاقات العربية حققت نجاحًا ولو جزئيًا، مثل منطقة التجارة العربية الحرة، والعديد من مؤسسات العمل العربي المشترك المنضوية تحت مظلة الجامعة العربية حققت نجاحات لا يمكن إنكارها، فأقمار "عربسات" التي أدخلت الفضائيات للمنطقة هي محصلة لعمل عربي مشترك، والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا للنقل البحري التي تحوّلت إلى مؤسسة علمية عملاقة وبيت خبرة عالي المستوى في النقل البحري هي إحدى منظمات الجامعة العربية المتخصّصة، وهناك تجربة جيدة للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"، خاصة قبل الحرب السورية، وهناك تجارب جيدة كذلك للمنظمتين العربيتين للتنمية الزراعية والإدارية وصندوق النقد العربي والصندوق العربي للمعونة الفنية لأفريقيا.

وبصفة عامة، فإنّ أنجح تجارب العمل العربي المشترك تتعلّق في الأغلب بالمؤسسات والمراكز والمنظّمات المتخصّصة في مجال بعينه، خاصة إذا غلب الطابع العلمي والاحترافي عليها بعيدًا عن خلافات السياسة، لا سيما وأنّ الأنظمة واللوائح المنظّمة لهذه المؤسسات تحت مظلة العمل العربي المشترك توفّر لها مساحة من المرونة والإدارة الذاتية بشرط الالتزام باللوائح الأساسية للجامعة العربية مع رقابة وتوجيه مرنين من قبل المجالس التنفيذية التي تتشكّل عادةً من قبل الوزراء المتخصّصين في المجال الذي تعمل به المنظّمة العربية المتخصّصة المعنية.

وفي المجال الإغاثي لدى الجامعة العربية تجربة لا بأس بها رغم عدم وجود وكالة متخصّصة أو ميزانية لهذا الأمر، ولكن تمّ تأسيس إدارة للصحة والمساعدات الإنسانية بالجامعة، وكان لها بعض التجارب الميدانية مثل تجربة تقديم المساعدات الإنسانية للشعب الليبي في ذروة الاضطرابات التي شهدتها البلاد، كما تقديم مساعدات للصومال من قبل مجلس وزراء الصحة العرب، حيث قام الجيش المصري بتوصيلها بطائرته إلى هناك.

ومؤخرًا عُقد بالجامعة العربية اجتماع لمبادرة "نبض العرب"، وهي مبادرة عربية تحت رعاية الجامعة لدعم النازحين السودانيين إلى مصر ومساعدتهم على التكيّف مع تداعيات النزوح من خلال حشد جهود اتحادات ومؤسسات عربية وقُطرية.

وجود الجامعة العربية في المجال الإنساني مُهمّ لتقليل تأثير الأجندات الإقليمية والخارجية في مثل هذه الأزمات

كما أنّ إدارة القرن الأفريقي والسودان بالجامعة العربية لديها خبرة كبيرة في ملفي الصومال والسودان وما يرتبط بهما من مشكلات اجتماعية وإنسانية، ولقد لعبت دورًا في الحد من الكثير من المواقف الغربية الراديكالية في البلدين، وفي تقليل تأثير تدخلات دول الجوار الأفريقي السلبية بهما، ولقد نظمت الجامعة العربية مع الأمم المتحدة في ديسمبر الماضي مؤتمرًا لدعم الصومال.

فوجود الجامعة العربية بجانب المؤسسات الدولية العاملة في المجال الإنساني في مثل هذه الأزمات مهمّ للغاية، ليس فقط لتحقيق الأهداف الإنسانية المتوخاة، ولكن لتقليل تأثير الأجندات الإقليمية والخارجية في مثل هذه الأزمات، خاصة تلك التي تحدث بمناطق هشة أو سلطة الحكومات العربية بها ضعيفة، وكذلك الأزمات المزمنة التي عادةً لا تحظى باهتمام من الدول العربية.

فمنظومة العمل العربي المشترك، على كلّ مشكلاتها، ما زالت تحظى باحترام دولي كبير، وهي قادرة على مخاطبة المؤسسات الدولية بلغاتها مع مراعاة المصالح العربية.

مثل هذه المؤسسة (يمكن تسميتها وكالة الإغاثة العربية) قد يكون لها ميزانية ثابتة متوسّطة الحجم تُموّلها الدول العربية، (على أن يراعى في تمثيل مجالس إداراتها نسب التمويل)، إضافةً لتلقيها تبرّعات شعبية أو دعمًا من منظّمات أممية، كما يمكن تشجيع الأثرياء العرب على التبرّع لها على أن تطلق أسماءهم على أوقاف تكون مخصّصة لتمويل هذه المؤسسة بشكل دائم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن