وجهات نظر

توابع "هندسة" الانتخابات في مصر

منذ أن عرف المصريون طريقهم إلى صناديق الاقتراع، قبل نحو قرن ونصف القرن، ومعظم الاستحقاقات الانتخابية التي تمّت يجري هندستها سلفًا في الغرف المغلقة حتى تضمن السلطة بقاءها واستمرارها "ما دام في الصدر قلب ينبض".

توابع

عمليات "هندسة الانتخابات" تتمّ في بلادنا إما باغتيال المنافسين المحتملين معنويًا، وضربهم بمدفعية الإعلام الثقيلة والخوض في ذممهم وأعراضهم في بعض الأحيان وعدم تمكينهم من إتمام إجراءات الترشّح حتى تضمن السلطة - قبل أن تبدأ المعركة الفعلية - فوزًا كاسحًا لمرشحيها، وهو ما درجت العادة على تسميته بـ"التزوير الناعم"، وإن لم يفلح هذا المسار لأيّ سبب تلجأ إلى حيل منع الناخبين وتسويد بطاقات الاقتراع، وقد يصل الأمر إلى التلاعب بالأرقام وإعلان نتائج مخالفة وهو ما عُرف بـ"التزوير الخشن".

باستثناء عدد قليل من الاستحقاقات، أدارت أنظمة الحكم المصرية المتعاقبة انتخاباتها على هذا المنوال، ولا عزاء للشعب المصري الذي ثار وانتفض غير مرّة بحثًا عن التغيير الذي يمكّنه من أن يكون طرفًا أصيلًا في معادلة الحكم؛ يختار بإرادته الحرّة مَن يحكمه ومَن يراقب أعمال الحاكم، ويحاسب عن طريق صندوق الاقتراع الطرفين على أيّ تقصير أو تهاون أو إهدار أو فساد .

قبيل ثورة المصريين في 25 يناير/كانون الثاني 2011، مارس "الحزب الوطني" الحاكم حينها هوايته في تزوير انتخابات البرلمان لصالح مرشحيه، وفي آخر استحقاق جرى في خريف 2010 ارتكب كل أنواع الموبقات الانتخابية "الناعمة" و"الخشنة"، فانتفضت المعارضة بكل أطيافها، وشكّلت من مرشحيها الذين خسروا الانتخابات ما سُمي بـ"البرلمان الموازي"، والذي سخر منه رئيس البلاد الراحل ورئيس "الحزب الوطني" حينها حسني مبارك وقال قولته الشهيرة "خليهم يتسلوا".

لا يفوّت المسؤولون فرصة إلا ويخوّفون فيها الناس من الإقدام على أيّ تحرّك للمطالبة بحقوقهم

أفقدت تلك الانتخابات نظام مبارك "شرعيته الدستورية"، إذ استقرّ في ضمائر المواطنين ووجدانهم أنّ المؤسسة النيابية التي من المفترض أن تمثّلهم في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية تشكّلت رغمًا عن إرادتهم، وبإرادة منفردة من الحزب الحاكم وأجهزة السلطة.

بعد أيام من إطلاق مبارك تعبيره الساخر الشهير، نزل الناس إلى الشوارع بالملايين للمطالبة بإسقاط النظام الذي خسر رضا الناس ففقد "المشروعية"، وتلاعب بإرادتهم فخسر "الشرعية".

تشكّل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني هاجسًا لدى نظام الحكم المصري الحالي، فلا تمرّ مناسبة دون الحديث عمّا جرى خلالها من أحداث "ضيّعت البلد" على حسب تعبير المسؤولين الذين لا يفوّتون فرصة إلا ويخوّفون فيها الناس من الإقدام على أيّ تحرّك للمطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشروعة: "لا تعتقدوا أنكم ممكن تغيروا مصر بهدمها". ولا يكفّون عن تذكيرهم بمصائر دول المنطقة التي انتفض أهلها لتغيير أوضاعهم البائسة فتفكّكت وتحوّلت إلى "دول هشّة"، ولسان حال هؤلاء: "إحمدوا ربّنا على ما أنتم فيه، وانظروا لما جرى لسوريا والعراق وليبيا واليمن".

في المؤتمر الدعائي "حكاية وطن" الذي عُقد بالقاهرة قبل أيام للترويج لإنجازت النظام خلال سنوات حكمه الـ9، وانتهى بإعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي ترشّحه لفترة ولاية ثالثة، كرّر "الرئيس المرشّح" اتهامه لثورة يناير بأنها هي التي عرّضت مؤسسات الدولة للتفكيك: "هدم المؤسسات سهل وسريع للغاية لكن إعادة بنائها صعب".

لم يخرج المصريون في 2011 لهدم مؤسسات الدولة أو تفكيكها، بل ثاروا على مؤسسات الحكم التي تحلّلت وفسدت واقتصرت على خدمة دوائر المصالح التي تكوّنت خلال 30 عامًا من حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، ثاروا كما غيرهم من الشعوب على إخراجهم من معادلة الحكم، أرادوا أن يصبحوا أصحاب القرار الحقيقيين وأصحاب البلد الأصليين، بعد أن يئسوا من أن تتعامل السلطة معهم كمواطنين لهم كامل الحقوق كما عليهم كل واجبات المواطنة، وأصرّت على اعتبارهم "درجة ثانية" لا يحقّ لهم الاختيار ولا بالطبع التبجح بالاعتراض على طريقة إدارة أصحاب الوصاية على مقدرات الوطن.

لم يتعلّم نظام الحكم الحالي الدرس، فيكرّر الخطايا ذاتها التي سقط فيها نظام مبارك

أغلق نظام مبارك كلّ النوافذ التي كان من الممكن أن تؤدي إلى تداول سلمي للسلطة، فصادر حقّ الناس في التغيير بالطرق السلمية الدستورية، وتعامل مع مصر باعتبارها "عزبة" يجوز له حكمها مدى الحياة ثم توريثها لأولاده وتوزيع خيراتها على محاسيبه، صبر الناس معه لعقود حتى ضاقت الصدور وطفح الكيل وانفجر الشعب لوضع نهاية لتلك الحقبة السوداء.

لم يتعلّم نظام الحكم الحالي الدرس، فيكرّر الخطايا ذاتها التي سقط فيها نظام مبارك، ويتخيّل أنه سيصل إلى نتيجة مغايرة، يصادر حقّ الناس في الاختيار، ويمارس هواية الأنظمة المستبدة في هندسة الاستحقاقات وغلق كل المنافذ والأبواب، يغلق آذانه ولا يريد أن يسمع سوى صدى صوته، ويتوقع أنّ صبر الناس سيمتد إلى ما لا نهاية، لا يدري من يصنع القرار أنّ سوء الأحوال المعيشية الناتج عن سوء إدارة الملف الاقتصادي جعل الناس على شفا انفجار قد يحرق لهيبه الجميع.

هدم مؤسسات الدولة هو النتيجة المنطقية للاستبداد والقمع وتقييد حرية الرأي والتعبير، ولا يخرج الناس إلى الشوراع طلبًا للتغيير إلا بعد يأسهم من أنّ "صناديق الاقتراع" ستحقّق لهم مرادهم في التداول السلمي للسلطة، وإذا أضفنا إلى ذلك عدم قدرة معظم فئات الشعب على تحمّل النتائج الكارثية لسوء فشل السلطة في إدارة الملفات الاقتصادية فسنصل إلى النتيجة الحتمية ذاتها التي لا يتوقف النظام عن التخويف منها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن