وهو الأمر الذي انعكس إيجابًا على عدد الحركات والجماعات الدينية إن في الشرق أم الغرب، وأوجد حربًا محمومة بينها من أجل توسيع قواعد رأسمالها الاجتماعي، عن طريق جلب المزيد من الأتباع والمريدين، إضافة إلى تزايد أعداد المنتمين طوعًا لهذه الجماعات، كما تنامت وبشكل ملفت للنظر ظاهرة التحوّل من جماعة لأخرى ومن دين لآخر أو إلى اللادين. وذلك على نحو اتجهت فيه الروابط الدينية والأيديولوجية إلى تعويض الروابط الاجتماعية والتعاقدية، وبفهوم "فيبر" التأطر داخل جماعات تجمعها وحدة الشعور والانتماء، وتتأسّس على التساند والتآلف والتواشج في تقاسم انتماء عقدي وأيديولوجي مشترك.
هذا الموقف الأخير هو ما ميّز السلفية الجهادية في السابق باعتبارها أطرًا للانتماء وتشكيل، أو ترميق، الهوية الفردية، إنها ولمدة غير يسيرة ظلّت مرتبطة بالمكان الذي ترعرعت فيه وملتزمة بثقافته وخصوصياته، ولذلك ظلت كل رقعة مكانية من الفضاء الجغرافي العربي موسومة بحركة وأيديولوجية إسلامية، أما اليوم فقد تغيّرت أطر الانتماء وظهرت حركات عالمية ذات تنظيمات راديكالية. وتمكّنت من التوسّع وتحقيق الانتشارية بفضل طابع السيولة والتدفق الذي توفره الفضاءات الشبكية، بل وإنشاء فروع لها في مختلف الجهات والقارات بما فيها أفريقيا وأوروبا وأمريكا، عن طريق اعتمادها سياسة الفصل بين المعلم الديني والثقافي، بحيث يصير المعلم الديني منزوعًا عن جذوره وخصائصه الجغرافية والثقافية، ومغلفًا في قوالب شبكية تمكّنه من التنقّل في كل الأمكنة أو في اللامكان، "وتركز هذه الشبكات عادة اهتمامها على الأمة المهاجرة والجماعة الدولانية، لا على وطن جغرافي" (أولفييه روا).
حركات الإسلام السياسي عملت على استقطاب الشباب ممن يعانون "توترات وإحباطات"
ضمن هذا التوجه يرى "أوليفييه روا" أنّ "عودة الديني المتمثلة في الإسلام السياسي والسلفية الجهادية الراهنة لا يمكن أن تكون احتجاجًا أو رد فعل على حداثة مستلبة أو وهمية، وإنما هي شكل مختلف للدخول في الحداثة"، حيث أجبرت الأديان في عصر الشبكات والحداثة السائلة على البحث عن أطر جديدة للانتماء وإعادة بناء ذاتها في فضاء مستقل، ومثال ذلك ما أورده الباحث "أدواري" في كتاب "السلفية العالمية"، حول السلفية باعتبارها ظاهرة ما بعد حداثية، واعتبار السلفي الأوروبي المنفصل عن جذوره الاجتماعية/التاريخية فردًا معولمًا لم يعد مهتمًا بعد هذه التحولات بجذوره الثقافية الخاصة وبأرض والديه، ويفضل بدلًا من ذلك الحراك الثقافي العابر للقوميات من خلال الرغبة في الاستقرار في مدن كوزموبوليتانية.
الأمر الذي مهّد انتقال الإسلام عبر الإنترنت في حركة ذهاب وإياب مستمرة "بين الفرد الواقعي المعزول، والمجتمع الوهمي/الافتراضي، والفردانية غير ناجمة عن استعمال الانترنت، بل هي أولًا واقع سوسيولوجي، فمستعملو الإنترنت من المسلمين الذين يسعون من خلاله لكي ينشئوا أمة وهمية، يجعلهم شعورهم بالعزلة في مجتمع يتقدمون فيه، عاجزين عن عيش إيمانهم بعمق في محيطهم اليومي"، وهو ما تم استثماره وعلى درجة كبيرة من المرونة من طرف حركات الإسلام السياسي والسلفية الجهادية بتشكيلاتها ومشاربها المتنوعة، إذ عملت بدايةً على استقطاب وجذب الشباب ممن يعانون "توترات وإحباطات في مرحلتهم الانتقالية أو من تركوا لشأنهم وحساباتهم الخاصة، أو الواقعين على هامش المجتمع وطبقاته، وكذلك المتحولين من عالم الجريمة والانحراف وإدمان المخدرات"، وذلك من أجل توسيع قواعدها وتقوية فصائلها، عن طريق الحركات الدعوية في المساجد والقيام بمبادرات خيرية واجتماعية لصالح الفئات المعوزة، وتنظيم دورات تكوينية والدخول في مخيمات مبرمجة من أجل التشبع بأيديولوجية الجماعة ومصالحها.
أصبح "جيل الشبكيين" في حاجة إلى وعد بأنهم وإن كانوا ينتمون إلى فئة المقهورين بإمكانهم الفوز باهتمام العالم
وإذا كان هذا النوع من الاستقطاب لا يخرج عن الاستراتيجيات الصلبة أو المادية المرتبطة بحيثيات المكان والزمان، فإنّ ذلك كله قد انتهى في عصر ما بعد الحداثة وعصر بلوغ النهايات: نهاية التاريخ والإيديولوجيات والنهضة والثورة والتغيير" (أرون ريمون)، بحيث أصبحت المادة سائلة وكل ما يرتبط بها من ديناميات اجتماعية وبشرية أصبح كذلك، أي مرتكزًا على بعد آخر يلخصه مصطلح السيولة، أو بمعنى آخر التدفق حسب "زيجمونت باومان"، الذي استعمله لشرح مآلات الحداثة الراهنة، وذلك عبر سلسلة من كتب السيولة: المراقبة السائلة، العنف السائل، الشر السائل...
في زمن السيولة المعلوماتية والعودة القوية للديني في الحياة اليومية، أصبح جيل الشبكيين - خاصة من المهمشين أو المهاجرين في غير ديار الإسلام - في حاجة إلى وعد جديد بأنهم وإن كانوا ينتمون إلى فئة البسطاء أو المقهورين، بإمكانهم اليوم الفوز باهتمام العالم أيضًا، وليس فقط النجوم والقادة، ولعلّ قراءة النماذج التفسيرية التي ظهرت في إطار السعي للتأثير في القناعات الدينية لدى المسلم الشبكي، المتباعد تدريجيًا عن بيئته الموقعية وقيمها، والمتوغل إلى حد الهوس في بيئات افتراضية وشبكية تيسر بناء الهوية الإسلامية وترميقها، بل وإعادة تشكيلها وفق أيديولوجيا دينية عالمية، تسعى إلى وصل الإنسان بالإله، والعقل بالوحي، والدنيا بالآخرة، من خلال ضمان الديمومة بين الحياة والموت، والعالم الشبكي والموقعي، والهويات والقيادات، قد أفضت إلى التعرف على مدى شيطانية الآلة التكنولوجية – نقصد بها الإنترنت - وقدرتها على سد الحاجات والتماهي مع الأفكار والقناعات، خاصة حينما جُعلت تحت سيطرة التنظيمات الجهادية والمتطرفة.
(خاص "عروبة 22")