قضايا العرب

لماذا يصرّ الغرب على "الفهم الخاطئ" للحالة التونسية؟

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

منذ نحو أسبوعين رفض الرئيس التونسي قيس سعيد زيارة وفد من البرلمان الأوروبي إلى تونس كان الهدف منها تقييم الوضع السياسي التونسي بعد توقيع اتفاقية الهجرة بين تونس وأوروبا منذ شهرين، والالتقاء بعدد من ممثلي المعارضة والمجتمع المدني والنقابيين.

لماذا يصرّ الغرب على

قرار سعيد كان منتظرًا نظرًا إلى موقفه الرافض منذ البداية للتدخّل في الشؤون الداخلية لبلاده، لكنّ الخطوة الأوروبية أكدت مجددًا أنّ أوروبا، أو الغرب عمومًا لم يبرح بعد مقاربته التقليدية في التعامل مع تونس، وأنّ الخلفية الاستعمارية ما زالت تتحكّم في شكل الشراكة التي تطرحها أوروبا معها، وأنّ المحطات الفاشلة الناتجة عن سوء التقدير للحالة التونسية والمشاريع المسقطة دون دراسة وفهم حقيقي لمشاكل البلاد وما يتطلع إليه التونسيون حقًا، لم تكن كافية حتى يغادروا مقارباتهم التقليدية.

فهم التونسيين للديمقراطية كان منذ البداية مخالفًا لما حملته الوصفة الغربية

بعد اندلاع ثورة الـ14 من يناير/كانون الثاني 2011 وصعود طبقة سياسية جديدة عوضًا عن نظام بن علي، سارع الغرب ليكون حاضرًا بقوة في المشهد التونسي، لكن هذه المرّة برؤية أخرى متطلّعة إلى جعل هذا البلد نموذجًا ديمقراطيًا في المنطقة على أمل أن تتعمّم التجربة لاحقًا. وبسرعة قدّموا وصفتهم الجاهزة لتونس، والتي كان قوامها التركيز على العناصر الشكلية للديمقراطية. ولهذا تم تشكيل مجلس تأسيسي كخطوة أولى ونُظّمت انتخابات حرّة ونزيهة شاركت فيها كل القوى السياسية والأحزاب بما فيها التي كانت مقصاة في المراحل السابقة وأبرزها "الإسلاميون"، إلى جانب كتابة دستور جديد ثم إقامة نظام سياسي برلماني لا يستأثر فيه الرئيس بالسلطات، كما كان سائدًا في فترات الحكم السابقة في تونس.

كان حماس التونسيين لذلك كبيرًا وبدوا مستعدين للانخراط بقوة في هذه المرحلة الجديدة التي ستقطع مع ما سبق من أنظمة استبدادية. ولكن فهمهم للديمقراطية كان منذ البداية مخالفًا لما حملته الوصفة الغربية، ومن هنا بدأ سوء الفهم وبدأت مؤشرات الفشل تظهر تدريجيًا. فقد كان من الجيّد بالنسبة للتونسيين أن تُكسر القيود التي فُرضت سابقًا على الحريات، وخاصة حرية التعبير، وأن تكون هناك انتخابات نزيهة لا تستثني أحدًا، لكن شرط أن تكون مرفقة بتحقيق الرخاء الاقتصادي وتحقيق التنمية وتقليص مستويات الفقر وتحسين الخدمات وتقليص الفوارق بين المدن الساحلية ومدن الداخل. في حين صبّ الغرب اهتمامه على واقع حقوق الانسان والانتقال الديمقراطي الشكلي دون أن يبدي استعدادًا للانخراط على المستوى الاقتصادي الذي يقتضي تقديم الدعم المالي وتكثيف الاستثمارات في البلاد.

وعلى مدار عشرية كاملة ظلّ الرهان الأساسي، بالنسبة للغرب في تونس، هو بناء تجربة ديمقراطية تكون بمثابة النموذج الذي ستحتذي به بقية دول المنطقة بناءً على اعتقادات سابقة ترجّح أنّ تونس مهيّأة أكثر من غيرها لتكون هذا النموذج، نظرًا إلى عوامل عدة منها مستوى التعليم وحقوق المرأة فضلًا عن كونها الدولة التي قادت "الربيع العربي". لكن الغرب لم يُبدِ أيّ نية أو عزم على تسخير بعض موارده لإنجاح هذا الهدف وبلورته فعليًا، رغم أنّ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم العجز المالي وزيادة نسبة التداين الداخلي والخارجي كان من الواضح أنها تحديات تهدد التجربة الديمقراطية. بل إنّ ما قُدّم لتونس ماليًا كان عبارة عن قروض أو ودائع بنكية، رغم أنّ التجارب السابقة لهذا الغرب كانت كفيلة بجعله يُدرك أنّ هذا الشكل من الدعم لن يساعد البلاد بل سيغرقها أكثر. فبعد محنة الحرب العالمية الثانية، ولتنهض أوروبا وتكون بالصورة التي هي عليها اليوم، فاقت الهبات والمساعدات المالية 90 بالمئة من مجموع الأموال التي تلقّتها.

"الديمقراطية" التي لا تحسّن المعيشة ولا تقلّص البطالة لن يدافع التونسيون عنها

في الأثناء، كانت المنظومة السياسية الجديدة ولا سيما المحسوبة على "الإسلاميين"، باعتبارهم الحزب الحاكم الفعلي على مدار العشرية التي تلت الثورة، تنفّذ الوصفة الغربية القائمة على إعادة تشكيل المنظومة السياسية وإرساء الديمقراطية ضمن أطرها الشكلية، طالما أنها تُمكّنها من البقاء في السلطة. ولم تحاول أن تفهم أنّ سقوط نظام بن علي، وتمرّد التونسيين، كان سببه الأساسي تدهور الوضع المعيشي لفئة واسعة من المجتمع ولا سيما أبناء المناطق الداخلية وارتفاع بطالة الشباب، خصوصًا على مستوى خرّيجي الجامعات. ولهذا لم تنجح في وضع أسس حقيقية ومجدية لتحقيق نقلة اقتصادية واجتماعية، ولم تنجح الحلول الترقيعية والوعود الكثيرة في تجنيبهم لحظة تخلي التونسيين عنهم بعد أن تراكمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتفاقمت أكثر.

في ظل هذا القدر من سوء الفهم وسوء التقدير والإصرار الغربي على أن يكون دورهم في حدود الأطر الشكلية للديمقراطية، بدأت التجربة التونسية بالإهتراء وبدأ الساسة الجدد، والنخبة السياسية عمومًا تفقد مصداقيتها أمام مواطنيها. ورغم ذلك لم يفهم الغرب، أو لم يسعَ إلى فهم، أنّ أهداف النخبة السياسية والنموذج الذي يتطلعون إليه لا يعني الأغلبية في تونس، وأنّ المسائل الاجتماعية والاقتصادية هي ما يهتم به التونسيون بشكل رئيسي، وأنّ الديمقراطية التي لا تحسّن معيشتهم ولا تقلّص بطالتهم لن يدافعوا عنها بل سيتنكّرون لها في حال طُرحت بدائل أخرى تصب اهتمامها على هذه المشاغل، حتى وإن كانت ذات طابع تسلّطي استبدادي. وهو ما حدث فعلًا.

إذ بدأت استطلاعات الرأي تكشف مدى خيبة التونسيين من الديمقراطية، حتى أنّ نسبة التونسيين الذين كانوا يرون أنّ الأنظمة الديمقراطية ليست فعّالة في الحفاظ على النظام والاستقرار، وفي قدرتها على تحسين الوضع الاقتصادي، ارتفعت من 17% سنة 2011 إلى 66% سنة 2021.

وعندما أقدم الرئيس التونسي على إجراءات الـ25 من يوليو/تموز 2021 التي أغلق بمقتضاها البرلمان وأقال الحكومة، صدم هذا الغرب، لكنّ عموم التونسيين خرجوا إلى الشوارع في كل المدن للاحتفال بنهاية عشرية ما اعتبره الغرب التجربة الديمقراطية الرائدة في المنطقة العربية. حينها أدرك الغرب أنه قد أساء فهم الحالة التونسية وأدرك متأخرًا أنّ نجاح الديمقراطية لا بد أن يكون مقرونًا بمسار اقتصادي ناجح أيضًا، وأنّ المكاسب الحقوقية والسياسية إذا لم يصاحبها رفاه اجتماعي لن يدافع عنها الناس. لكنه رغم ذلك لم يمدّ يده لإنقاذ هذه التجربة وترك البلاد تغرق في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل إنه عاد مجددًا ليعيد الأخطاء ذاتها.

الغرب يدعم "الديمقراطية" ما دامت هناك منظومة تضمن مصالحه وتقترض منه بشروطه

ففي يوليو/تموز الماضي وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاق شراكة مع تونس، أهدافه المعلنة دعم تونس ماليًا والوقوف إلى جانبها اقتصاديًا لتكون قادرة على مواجهة الهجرة غير النظامية. لكن بعد فترة قليلة بدأت تصريحات النواب الأوروبيين تكشف عن الجوانب الخفية للاتفاق، أو الحقيقية بالأحرى، وهي مقايضة تونس بالدعم المالي مقابل السماح لهم بالتدخل في كل الملفات الداخلية للبلاد وخاصة مراقبة وضع حقوق الانسان. وهو ما عارضه قيس سعيد قطعيًا، إلى درجة رفض معها زيارة وفد من البرلمان الأوروبي كان يريد القدوم لمراقبة الوضع السياسي والحقوقي في تونس.

ومجددًا، عادت أوروبا، ومن ورائها الغرب، إلى إثبات عدم رغبتها في استيعاب الدرس وإصرارها على التمسّك بالمقاربة التقليدية في التعامل مع دول جنوب المتوسط. فهي من جهة لم تقدّم بعد الدعم المالي لتونس رغم حاجة الاقتصاد التونسي المُلحّة لذلك، وسارعت بالعودة إلى التركيز على الجوانب الشكلية، وبدت غير راغبة في فهم أنّ تطوير واقع حقوق الإنسان لن يتحقق قبل إنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

ويقول المحلل السياسي والباحث التونسي محمد ذويب لـ"عروبة 22": "الغرب يدرك أنه لم تكن هناك ديمقراطية حقيقية في تونس ( في ظل وحود هيئات منصّبة وإعلام موجّه وجوامع مسيّسة وصفحات تواصل اجتماعي تُدار من الخارج وشبكات سبر أراء توجّه الرأي العام و"لوبينغ" ومال سياسي يملأ البلد وغيره)، ولكنه يدعم هذا النوع من "الديمقراطية" ما دامت هناك منظومة تضمن مصالحه وتقترض منه بشروطه وتحرس له حدوده وتضمن مصالح شركاته ومستثمريه وتضمن له أسواق استهلاكية كبيرة في عدة منتوجات ضاقت به أسواقه".

ولهذا، يضيف ذويب: "اليوم نحن أمام تضارب في موقف أوروبا من تونس مع صعود منظومة سياسية جديدة تريد قطع هذا النوع من العلاقة"، معربًا عن مخاوف من "الأهداف الحقيقية لهذا الغرب" التي تتمحور فقط حول "خدمة مصالحه والحفاظ على العلاقة الكلاسيكية مع دول مثل تونس تختزن الخلفية الاستعمارية باعتباره ينظر إلى مثل هذه الدول كدول تابعة له".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن