اقتصاد ومال

"الصندوق العربي لإنماء ودعم فلسطين" ضرورة حياة وواجب قومي

يتعرّض الاقتصاد الفلسطيني لهجمة صهيونية شرسة وانتقامية بعد "طوفان الأقصى" الذي أذلّ الجيش والاستخبارات الصهيونية وشكّل ردًا بطوليًا مذهلًا على الاعتداءات الصهيونية الدائمة على الحجر والبشر والمقدّسات في فلسطين المحتلة. وتلك الهجمة تشكّل استمرارًا لما يتعرّض له من شتى أشكال الحصار والسطو والعقاب والتخريب من عهد الانتداب البريطاني وحتى الآن، والتي تجعله اقتصادًا أسيرًا لدى قوات بغي وعدوان خلال قرن كامل من الزمن.

تضاعفت الهجمة الصهيونية المسعورة على الاقتصاد الفلسطيني لتشمل تدمير الثروة العقارية والبنية الأساسية والاقتصادية، وإيقاف توريد الكهرباء والوقود للشعب الفلسطيني المُحاصَر في غزة والذي مُنع أيضًا من الصيد في بحره وتمّ شلّ تجارته الخارجية كوسيلة صهيونية دنيئة لتسميم حياته في أراضيه المحتلة أو المحاصرة.

الاحتلال دمّر الصناعة الفلسطينية ويزرع الأراضي الخاضعة لسيطرته بالمياه التي يسرقها من الضفة ونهر الأردن

هذه الهجمة تعيد طرح الضرورة القصوى لتقديم المساندة الاقتصادية العربية المنتظمة لفلسطين لتمكينها من امتلاك القاعدة الاقتصادية كأساس للقوة الشاملة، خاصة وأنّ الاستدمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني يعمل بشكل دائم ومنظّم على شلّ وتخريب الاقتصاد الفلسطيني بكلّ السبل.

قوّض الاحتلال الصهيوني فرص تطوّر الصناعة الفلسطينية من خلال تحكّمه في منح أو منع الموافقة على المشروعات الصناعية، فضلًا عن فرضه رسومًا مضاعفة على الصناعات الفلسطينية، مقارنةً بمثيلاتها الصهيونية، وإهماله لإقامة البنية الأساسية في الأراضي المحتلة عام 1967 إلا لخدمة أغراضه الاستيطانية والعسكرية.

واقتصرت الصناعات المسموح بها على الحلوى والجلود والأحذية والملابس والصناعات الحرفية التقليدية وبعض مواد البناء، وهى تعتمد طبقًا لآليات التحكّم الصهيونية، على الآلات والمعدات المستوردة من الكيان الصهيوني، وبعضها مجرد مراحل في صناعات صهيونية بالذات في مجال المنسوجات والملابس.

أما في مجال المياه والزراعة، فإن الكيان الصهيوني قام منذ احتلاله للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة عام 1967 بعملية سطو منظّم على موارد المياه في الضفة الغربية التي تحوي نحو 60% من مصادر المياه الداخلية في فلسطين من البحر إلى النهر. كما قام بتدمير عدد كبير من مجموعات الضخ الفلسطينية على نهر الأردن ومنع زراعة الأراضي القريبة من الحدود الفلسطينية – الأردنية. كما يقوم بشكل منظّم بتدمير بعض الزراعات البستانية الفلسطينية معلّلًا ذلك بالاعتبارات الأمنية. كما حفر آبارا عميقة بالقرب من الآبار العربية لسحب المياه منها وإصابتها بالتملّح أو حتى بالجفاف، ولتحويل المياه إما إلى المستدمرات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أو إلى فلسطين المغتصبة عام 1948. وكانت نتيجة كل ذلك هي أنّ الضفة الغربية وهي خزّان المياه الرئيسي في فلسطين كلها، لم تعد تزرع سوى 4% من أراضيها الزراعية بالري في حين تزرع المساحة الباقية على المطر وهي زراعة متذبذبة ومنخفضة الإنتاجية، بينما يزرع الكيان الصهيوني 45% من الأراضي الزراعية الخاضعة لسيطرته منذ عام 1948 بالري وبالاعتماد بالأساس على المياه التي يسرقها من الضفة الغربية ونهر الأردن. كما صادر الاحتلال أراضي تبلغ مساحتها أكثر من نصف مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

كما وضع الكيان الصهيوني قيودًا صارمة لشلّ نشاط الصيد في بحر غزّة وتقييده بمسافة 6 أميال بحرية، ويتمّ منعه كليًا في بعض الأحيان، وإن كان ذلك المنع يمكن التحايل عليه بتأسيس مزارع سمكية في البحر المفتوح لا تحتاج سوى لميل بحري واحد، مع تطوير صناعات صغيرة وكثيفة العمالة لتنظيف وتجهيز وتعليب الأسماك.

وهذا الوضع يطرح التساؤل حول الحلّ الممكن لدعم الاقتصاد الفلسطيني وقدرته على استيعاب قوة العمل الفلسطينية وتدعيم الأساس الاقتصادي للقوة الشاملة للشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية.

الآليات الممكنة لتمويل صندوق إنماء ودعم فلسطين

من المستحيل على الاقتصاد الفلسطيني الخاضع للاحتلال أن يعتمد على موارده المحلية في بناء الأساس الاقتصادي للقوة الشاملة لفلسطين. وليس هناك سوى مخرج أساسي هو تقديم تيار منتظم من المساعدات العربية لفلسطين من خلال صندوق عربي لإنماء ودعم فلسطين. ويجب على السلطة الفلسطينية أن تطالب به وتلح على طرحه في كل اجتماعات الجامعة العربية.

ولو قامت البلدان العربية النفطية الغنية بتخصيص دولار واحد عن كل برميل من صادراتها النفطية لهذا الصندوق، فإنّ الحصيلة السنوية لموارده سوف تكون في حدود 7 مليارات دولار. ويمكن طرح مبادرة إضافية لتعزيز موارد الصندوق من خلال التبرّع اختياريًا بأجر يوم عمل واحد سنويًا لكلّ مشتغل عربي ممن يرغبون في دعم فلسطين لتدخل الحصيلة في موارد الصندوق.

وتكرّس موارد هذا الصندوق لبناء مشروعات صناعية وخدمية صغيرة ومتوسطة تستوعب العمالة الفلسطينية وتبني اقتصاد الضرورة لفلسطين، على أن تكون تلك المشروعات غير ملوثة للبيئة ومتناثرة داخل الكتلة السكنية كضمانة وحماية لها. كما يتم توفير الكهرباء للمنازل والمصانع والمزارع من خلال محطات صغيرة ومتوسطة للطاقة الشمسية للاستغناء عن المحطات الضخمة التي تعمل بالنفط والغاز والتي يسهل تدميرها من عدو مجرم.

لإنهاء التبعية الاقتصادية الفلسطينية لاقتصاد الكيان الصهيوني، وتأسيس روابط متكافئة مع الاقتصادات العربية

كما يوجّه جزء مهم من موارده لتقديم قروض طويلة الأجل للفلسطينيين المقيمين في الأرض المحتلة بدون فائدة أو بفائدة ميسّرة لا تزيد على 1% لتمويل إقامة مشروعات إنتاجية في الأراضى الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولإنهاء روابط التبعية الاقتصادية الفلسطينية لاقتصاد الكيان الصهيوني، ولتأسيس وتطوير روابط متكافئة مع الاقتصادات العربية كبديل وطني.

كما يخصّص جزء من موارده لشراء أي أراضي أو عقارات فلسطينية معروضة للبيع في الضفة والقدس وفي كل فلسطين من البحر إلى النهر، حتى لا تذهب إلى أي وسطاء ينقلونها في النهاية لمشترين صهاينة.

والأهم من كل ذلك أن يقوم الصندوق بتمويل إعادة اللاجئين الفلسطينيين من لبنان والأردن وسورية إلى الأماكن التي يمكنه إعادتهم إليها في الضفة وغزة. وهذا التمويل يتضمّن بناء المساكن والبنية الأساسية الضرورية لها والمشروعات الاقتصادية الضرورية لاستيعاب العائدين للوطن في وظائف وأعمال تمكّنهم من كسب عيشهم بكرامة، على أن تفتح المعابر والأسواق العربية لاستيعاب منتجاتها بدون رسوم جمركية. وهذا هو الطريق لجعل العودة أمرًا واقعًا يبدأ من غزّة التي لا يحتاج الدخول إليها لموافقات صهيونية. كما أنه من الضروري أن يتمّ تنظيم مسيرات للعودة عبر حدود الأردن ولبنان لإحياء قضية عودة اللاجئين لوطنهم وإحراج المجتمع الدولي الذي يتجاهل هذه القضية والقرارات الدولية الخاصة بها.

ويجب أن يُدار الصندوق تحت رقابة السلطة الفلسطينية والمانحين، من خلال مجموعة من الخبراء الفلسطينيين والعرب حتى يقوم بدوره في دعم وتنمية وتطوير اقتصاد فلسطين وتشغيل قوة العمل الفلسطينية دون أي تحيّزات سياسية تثير الانقسامات وتخلق الحساسيات.

الغرب صنع الكيان الصهيوني بالمساعدات فلماذا لا يدعم العرب فلسطين؟!

بلغ مجموع المساعدات الخارجية التي تلقاها الكيان الصهيوني من المصادر الرئيسية الثلاث لمساعدته (الولايات المتحدة، وألمانيا، والجباية اليهودية) نحو 280 مليار دولار بالأسعار الجارية خلال الفترة من عام 1948 حتى عام 2023. ولو تلقّت مصر على سبيل المثال مساعدات موازية لحجمها السكاني بالمقارنة بالحجم السكاني للكيان الصهيوني، فإنها كان يجب أن تتلقى نحو 3360 مليار دولار بالأسعار الجارية خلال الفترة المذكورة. وهذه المقارنة توضح الحجم الهائل للمساعدات الخارجية التي تلقاها الكيان الصهيوني وتكفّلت بتطوير اقتصاده وتحويله لاقتصاد صناعي متقدّم وغني، ورغم ذلك ما زال أكبر متلقي للمنح الأمريكية التي تبلغ حاليًا 3,8 مليار دولار سنويًا، فضلًا عن التحويلات الضخمة من مختلف المصادر والتي تبلغ 9 مليارات دولار سنويًا.

الاقتصاد الفلسطيني الفعّال يشكّل قاعدة راسخة لقوة فلسطين الشاملة في صراعها الوجودي

أما لو تمّ احتساب المساعدات الخارجية التي تلقاها الكيان الصهيوني بدولارات الوقت الراهن فإنها تعادل على الأقل نحو 1200 مليار دولار من دولارات عام 2023. ولو تلقت مصر ما يعادلها وفقًا لحجمها السكاني فإنها كان يجب أن تتلقى نحو 14400 مليار دولار من دولارات الوقت الراهن. ولو حصلت مصر على منح من الولايات المتحدة معادلة لما يحصل عليه الكيان الصهيوني سنويًا (3,8 مليار دولار سنويًا) مع وضع الحجم السكاني في الاعتبار، فإنها يجب أن تحصل على 45,6 مليار دولار سنويًا. وهذه المقارنة تؤكد على أنّ ما يجري ترويجه عن معجزة اقتصادية صهيونية هو مجرد تزييف للحقائق وترويج للأوهام، فلو حصلت فلسطين أو مصر أو لبنان أو سورية أو أي دولة أخرى على مساعدات كتلك التي تلقاها ويتلقاها الكيان الصهيوني لأصبحت دولة صناعية متقدّمة وشديدة الثراء.

ختامًا لو أرادت الدول العربية تقديم دعم حقيقي للقضية الفلسطينية فعليها أن تؤسّس صندوق إنماء ودعم فلسطين فورًا وبدون أي شروط سياسية، لبناء اقتصاد فلسطيني فعّال يشكّل قاعدة راسخة لقوة فلسطين الشاملة في صراعها الوجودي مع الكيان الصهيوني، واللحظة المناسبة للبدء بذلك هي الآن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن