بصمات

في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/1)من السلطنة إلى الدولة الوطنية

في 29 تشرين أول/ أكتوبر 1923، تم إعلان الجمهورية التركية، وكان ذلك بعد أن أُعلن في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1922، عن إلغاء السلطنة، وقبل أن تُلغى الخلافة العثمانية في 3 آذار/ مارس 1924.

في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/1)
من السلطنة إلى الدولة الوطنية

لقد مضى قرن من الزمن على وقائع كان لها أصداؤها التي تتجاوز تركيا لتصل إلى الولايات التي كانت قبل سنوات تابعة للدولة العثمانية، كما أنّ هذه الأصداء قد تركت انطباعات كثيرة في العالم العربي والإسلامي، بالرغم من أنّ السلطنة لم يكن قد بقي منها غير الاسم، أما الخلافة فكان لها بُعد معنوي ورمزي، وحفّز إلغاؤها في استامبول طموحات ملوك وحكّام أراد كل منهم أن يحصل على المنصب، إلا أنّ الوقائع كانت أقوى من الطموحات، ذلك أنّ الدولة الوطنية كانت قد أصبحت واقعًا راسخًا لا يحتاج إلى مشروعية من خارجها. بالرغم من أن أغلب الأقاليم التي كانت قد انفكت عن العثمنة إلى نوع من الإدارة الذاتية، كانت لا تزال في ذلك الوقت، أي قبل قرن من الزمن، خاضعة للاحتلالات الاستعمارية الأوروبية.

والواقع أنّ الدولة العثمانية نفسها كانت قد بدأت تتحوّل من دولة سلطانية إلى دولة محدّثة حين بدأت بأخذ الأُسُس التي تقوم عليها الدولة الوطنية (القومية)، حين اقتنعت الطبقة الحاكمة في استامبول بضرورة إصلاح المؤسسات والتخلّي عن نظام "المِلل"، الذي يعطي للجماعات الدينية، من مسيحية ويهودية، نوعًا من إدارة شؤونها الدينية والقضائية والتعليمية، إلى نظام يقوم على المساواة بين الرعايا في الحقوق والواجبات.. وكان ذلك عام 1839، حين أعلن السلطان عبد المجيد (خط كلخانة) الذي يُعتبر بداية حقبة التنظيمات.

مبدأ المواطنة يحتاج إلى إدارة حديثة ومؤسسات ونظام قضائي موحّد ونظام تعليمي

وإعلان المساواة بين الرعايا، يفترض تحوّل هؤلاء الرعايا إلى مواطنين، تبعًا للمبادئ التي قامت عليها الدولة القومية في أوروبا، وخصوصًا بعد الثورة الفرنسية الكبرى التي أطلقت شعارات الحرية والمساواة والأخوة. وإطلاق مفهوم المواطنة الذي عمّ دول أوروبا، وانتقل إلى الدولة العثمانية وولاياتها.

إلا أنّ مبدأ المواطنة يحتاج إلى إدارة حديثة ومؤسسات تخدم المواطنين على قدم وساق، ونظام قضائي موحّد وكذلك نظام تعليمي. وهذا ما سعت إليه الإدارة العثمانية في عهد حقبة التنظيمات.

إلا أنّ عقبات ومعوقات كبيرة كانت تفترض الانتقال من دولة سلطانية إلى دولة حديثة، إضافة إلى التدخلات الأوروبية التي تلح على التحديث وتحرض على استقلال الأقليات. كما أنّ الجماعات الدينية وجدت أنّ مبدأ المساواة مع فضائله يسلبها بعض الامتيازات، وخصوصًا الأعضاء من التجنيد.

إنّ فكرة المواطنة بحد ذاتها، كانت تمهّد لنمو المشاعر الوطنية، وكانت فكرة الاستقلال الوطني قد برزت في مطلع القرن التاسع عشر مع اليونانيين، كما أنها طرقت أبواب الولايات العربية.

ففي مصر التي كانت ولاية عثمانية، عمد محمد علي باشا (1805-1849)، إلى الشروع ببناء الأسس لدولة ذات إدارة مستقلة وجيش نظامي. كما أنّ الباشا في مصر حصل على حق توريث الحكم لأبنائه في مؤتمر لندن 1840، الذي أجبره على الانسحاب من (بلاد الشام). وقد برزت الوطنية المصرية في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879). وعبّر رفاعة رافع الطهطاوي بوضوح عن "الوطن" المصري. وكتابه: مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية (1869) هو بمثابة مدونة في الوطنية.

لعبت الأفكار الليبرالية دورًا في نشر أفكار المواطنة والمساواة

وفي تلك الفترة ظهرت الجمعيات شبه الحزبية في مصر مثل الحزب الوطني (وهو غير الحزب الوطني الذي تزعّمه مصطفى كامل 1908)، ومثل مصر الفتاة (غير مصر الفتاة التي برزت في ثلاثينات من القرن العشرين).

ولا شكّ بأنّ اسم مصر الفتاة مأخوذ عن تركيا الفتاة، الحزب الذي لعب دورًا في المطالبة بإعلان الدستور. ولا شكّ بأنه مأخوذ عن إيطاليا الفتاة الحزب الذي كان يعمل على توحيد إيطاليا.

وفي المشرق، وبعد الأحداث الطائفية عام 1860، فرضت الدول الأوروبية إقامة متصرفية في جبل لبنان تتمتع بنوع من الإدارة الذاتية. وكانت الأساس الذي قام عليه لبنان الكبير عام 1920. لكن في ستينات القرن التاسع عشر، عمدت الدولة العثمانية إلى إعلان ولاية سورية عام 1864، الممتدة من حدود ولاية حلب شمالًا إلى حدود سيناء والبحر الأحمر. وفي تلك الفترة أصدر المعلم بطرس البستاني مجلة نفير سوريا وكان داعية إلى الوطنية الجامعة ضد الطائفية.

لقد لعبت الأفكار الليبرالية دورًا في نشر أفكار المواطنة والمساواة. وقد أخذ المتعلّمون والمثقفون العرب هذه الأفكار وتبنّوها ونشروها عبر الصحف والمقالات. إلا أنّ بناء الدولة الوطنية يحتاج إلى مؤسسات وإلى أبنية رمزية وقوى مجتمعية تتبنّى مبدأ المواطنة وتعمل من أجله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن