نتيجة لذلك، شاهدنا روائع سينمائية خالدة حول القلق الوجودي، أزمة الهوية، أو الصراع بين الفردانية والشمولية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "معجزة السماء"، "أين عقلي"، "بئر الحرمان"، "الاختيار"، "حدوثة مصرية"، "خرج ولم يعد"، إضافة إلى أفلام تطرّقت بجرأة وشجاعة لتيمات الدين والسياسة من قبيل "الكرنك"، "المذنبون"، "احنا بتوع الأتوبيس"، "الإرهابي"، "اللعب مع الكبار"، "المصير"، "هي فوضى"، "اشتباك". غير أن الملاحظ هنا هو الغياب شبه التام لنوع درامي شهير وهو دراما القتلة المتسلسلين، ما يقتضي طرح أسئلة حول أسباب افتقار المكتبة السينمائية العربية لهذا النوع من الأفلام.
تحوّلت قضية السفّاحتين المصريّتين "ريا وسكينة" من مجرد سلسلة جرائم قتل إلى أسطورة شعبية مثيرة، حيث تناسلت الحكايات المتناقضة حول النوايا الحقيقية للأختين، إذ اعتقد البعض أن تهم القتل تلك كانت مجرد فبركة بريطانية بغرض الانتقام من جهود "ريا وسكينة" في مقاومة المستعمر.
وشكّلت فظاعة الجريمة وتضارب الآراء حولها، مادة فنية غنية التقط إشارتها الأديب الكبير نجيب محفوظ، والمخرج المخضرم صلاح أبو سيف اللذان قدّما لنا فيلم "ريا وسكينة" عام 1953 في محاولة سينمائية كانت الأولى من نوعها حول جرائم قتل متسلسلة شغلت الرأي العام آنذاك.
لقد صوّرت تلك التجربة الدرامية، الحالة الذهنية والدوافع النفسية للسفّاح بشكل متواضع جدًا، من خلال التركيز على مؤثرات بصرية بسيطة، وخلق بيئة غير مريحة للمشاهد، ومن ذلك التركيز مثلًا على الملامح المخيفة للبطلة نجمة إبراهيم التي قامت بدور ريا.
كان الفيلم عبارة عن معالجة بدائية لظاهرة القتل المتسلسل، واكتفى من خلالها المخرج بالتركيز على التعبير الجسدي الكلاسيكي لإيصال فكرة الشر.
تعود حكاية "ريا وسكينة" إلى الواجهة بداية ثمانينيات القرن الماضي، في قالب مسرحي جمع بين كوميديا الأداء وتراجيديا الحبكة، وكانت المسرحية عبارة عن تناول "لايت" لقصة إنسانية بتفاصيل مظلمة. كما تزامن عرض مسرحية "ريا وسكينة"، مع عرض فيلم ساخر آخر يحمل العنوان نفسه. ونعتقد أن صنّاع تلك الأعمال نجحوا إلى حد ما، في تحويل الخطيئة الإنسانية إلى كوميديا سوداء تسخر في عمقها من فعل القتل.
لا يمكننا الحديث عن أسطورة الأختين، دون التطرّق إلى المسلسل الشهير "ريا وسكينة" (2005) من بطولة الفنانتين عبلة كامل وسمية الخشاب، وهو المسلسل الذي أعاد تقديم القصة في قالب درامي مثير من حيث القصة والأداء المتميّز لكوكبة من نجوم الصف الأول.
كان فيلم السفّاح (2009) بطولة هاني رمزي ونيكول سابا، تجربة سينمائية حديثة نسبيًا في معالجة قضايا الجرائم المتسلسلة، عبر تقديم سيرة أحمد المسيري أو ما عُرِف إعلاميًا بـ"سفّاح المهندسين". وهو سفّاح مصري مارس جميع أنواع الجريمة، من قتل متسلسل وعمليات سطو مسلّح، مرورًا بتخطيطه للقيام باغتيالات سياسية، ثم رغبته في الانضمام إلى الجماعات الدينية المتطرفة. فشل الفيلم جماهيريًا، كما حظي بردود فعل سلبية لدى النقّاد.
احتلت السينما المصرية الصدارة في إنتاج مجموعة من الأعمال التي تدور حول الجريمة المتسلسلة. غير أنّ السينما التونسية مثلًا، نجحت هي الأخرى في تقديم عمل درامي مميّز في هذا الاتجاه. فيلم "سفّاح نابل" (2022) يحكي قصة السفّاح التونسي الناصر الدامرجي الذي ارتكب سلسلة من جرائم الاغتصاب والقتل في حق عشرات الأطفال.
تميّزت سينماتوغرافيا "سفّاح نابل" بالسوداوية، والمقاربة السيكولوجية الواقعية للدوافع النفسية والذهنية للقاتل، وربما أهم مؤاخذة نقدية على العمل، أنّ المخرج التونسي كريم بن رحومة وقع في فخ التبرير واستدرار التعاطف، من خلال التركيز على الطفولة المضطربة للمجرم، ونزعم أنّ كل تلك المحاولات الدرامية في تناول قضايا القتلة المتسلسلين، ظلّت بدائية ومتواضعة من حيث الحبكة والإخراج.
التجربة "النتفليكسية"... والشخصية الإجرامية
يعرف تطبيق "نتفليكس" نجاحًا عالميًا وعربيًا منقطع النظير، بل تقوم الجماهير العربية تحديدًا، بعملية استهلاك فرجوي ضخم لكل ما يُعرض على تلك المنصة الرقمية. قامت "نتفليكس" في السنوات الأخيرة بإنتاج وعرض مجموعة كبيرة من الأفلام والمسلسلات والوثائقيات حول القتلة المتسلسلين، ولاقت هذه الأعمال نجاحًا جماهيريًا عربيًا مبهرًا، وعلى رأسها مسلسل "جيفري دامر" و "Mind hunter" الأمر الذي يبدو أنه قد استرعى انتباه صنّاع الدراما العربية لما لاحظوه من تعطّش كبير لدى الجمهور العربي الناشئ على وجه التحديد، لهذا النوع الدرامي المرعب.
واضح أن "عامل نتفليكس" (Netflix factor) ساهم بشكل كبير فيما يُشبه التطبيع مع فظاعة الجريمة. بل ساهم أيضًا في تقبّل الهوس الجماهيري بشخصيات القتلة المتسلسلين وسير حياتهم الخاصة. لكن الأمر الأكثر خطورة، يدور حول أنسنة العمل الإجرامي أو إيجاد مسوغات أخلاقية للعنف ومبررات نفسية للجريمة، ووصل الأمر مع المنصة نفسها إلى تمجيد الشخصية الإجرامية وتلميعها في بعض الأحيان.
سفّاح الجيزة: ولادة جديدة لجثث متحلّلة
ومؤخرًا طغى على حديث الجماهير العربية عبر الـ"سوشال ميديا"، مسلسل الجريمة والإثارة المصري "سفّاح الجيزة"، وهو العمل الذي حقّق نسب مشاهدة قياسية، وخلق جدلًا إعلاميًا كبيرًا بين صفوف المتفرّجين.
يلمس المتتبع لحلقات المسلسل، وبما لا يدع مجالًا للشك، نوعًا من التحوّل الجذري أو نقلة نوعية واضحة في المعالجة السينمائية للقصة. ثمّة حضور قوي "للعناصر الهيتشكوكية" كما هو واضح مع تقنيات تصوير وإخراج كلاسيكية تُنسب لعملاق الرعب ألفريد هيتشكوك.
نلاحظ أيضًا اعتماد مخرج العمل على تقنية Subjective camera، وهي زاوية تصوير تعتمد على إدراج وجهة نظر المشاهد كفاعل موازٍ للشخصية، يتقاسم معها المشاعر المختلفة، والانفعالات العاطفية المتقلّبة، إضافة إلى تواجد عنصر هيتشكوكي آخر في حبكة "سفّاح الجيزة"، وهي شخصية الأم السلطوية.
تثبت لنا هذه التقنيات النوعية في الأداء والتصوير والإخراج، وبشكل قطعي أننا أمام ولادة جيل جديد من دراما صناعة الجريمة. ويجوز لنا القول إنّ "سفاح الجيزة" قد وضع حجر الأساس لمشروع "نتفلكسة" [Netflixization] الأعمال التلفزيونية والسينمائية العربية. إذ أطلّت علينا أخيرًا، الفنانة المصرية غادة عبد الرازق في دور "أم سايكوباتية" متسلّطة، تقوم باختطاف وتعذيب خطيبة ابنها، كما جاء في مسلسل "حدث بالفعل"، وهو أنطولوجيا تحكي قصص واقعية لقتلة متسلسلين ومرضى نفسيين من مختلف الجنسيات العربية.
تطبيع الجيل العربي الناشئ مع دراما العنف: تساؤلات ومخاوف
يضعنا التناقض الصارخ الذي يطبع الاهتمامات الفنية للشباب العربي، أمام مأزق أخلاقي مُحيّر، إذ يتميّز الجيل العربي الجديد بأنه يجمع بين شغفه بالتطبيقات الراقصة المرحة، وهوسه بالفرق الغنائية الكورية اللطيفة، وبين ولعه بالجثث المشوّهة والأطراف المبتورة. فهل نحن أمام نظرية "فوضى الحواس"؟ أو نحن بصدد ضياع تام لبوصلة الأخلاق وانهيار مؤسف للذوق العام؟
وفي سياق طرح الأسئلة المؤرقة نفسها: هل يجوز لنا أن نحاكم ميولات جيل نشأ تحت قصف الطائرات الحربية، وترهيب الأنظمة السلطوية، وعبثية الثورات الشعبية؟ هل يجوز لنا أن ننتقد الذوق "القاتل" لجيل كان شاهدًا على عصر انقلب فيه ربيع التغيير إلى شتاء لجوء قارس؟.
(خاص "عروبة 22")