بالنسبة للأوهام، نشير إلى:
أولًا: سقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. ولما لا؟ وقد سقطت قبل 50 عامًا في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، بالعبور وتحطيم خط بارليف المنيع، إنها الأسطورة التي تحطّمت عند الظهر، حسب الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين.
ثانيًا: الوهم الذي عاشته الأجيال المتعاقبة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي حول السلام الموعود. كذلك مدى هشاشته.
ثالثًا: انكشاف النقاب عن الوجوه السافرة، حسب الأغنية البديعة لأمّ كلثوم، وأقصد الانحياز المُفرط للولايات المتحدة الأمريكية الذي كان يقدّم نفسه باعتباره راعيًا لعملية السلام. وهو ما تجلّى في الدعم غير المحدود لإسرائيل اقتصاديًا، وعسكريًا، وسياسيًا، الذي أعلنته فورًا أمريكا، إضافةً لفرنسا وألمانيا ومن خلفهم الناتو.
أما عن الحقائق التي كشفها "طوفان الأقصى" فنرصدها كما يلي:
الحقيقة الأولى: أنّ حصاد السلام منذ مدريد (أكتوبر 1991)، ومرورًا بأوسلو (1993)، وكامب ديفيد الثانية (2000)، وآنا بوليس (2007)، لم يُسفر عن حلول وازنة وعادلة للمسألة الفلسطينية.
اليمين الإسرائيلي يسعى إلى تذويب المسألة الفلسطينية وعندئذ لا يكون أمام الفلسطينيين إلا الخضوع أو الرحيل
الحقيقة الثانية: العمل الدؤوب من قبل الحكومات الإسرائيلية عمومًا، واليمينية المتطرّفة خصوصًا التي حكمت من 2009 إلى 2021، ومن نهاية 2022 إلى الآن، هو القضاء على مركزية القضية الفلسطينية.
الحقيقة الثالثة: كشفت عنها إحدى الباحثات بجامعة نانت الفرنسية وتؤكد على أنّ اليمين الإسرائيلي يسعى جاهدًا إلى تذويب المسألة الفلسطينية. إذ بمجرد ألا يعود هناك مسألة فلسطينية، فإنّ السيطرة الإسرائيلية ستتواصل على كامل التراب الفلسطيني. وعندئذ لا يكون أمام الفلسطينيين إلا الخضوع القسري للأمر الواقع والقبول بما يقدّم لهم، أو الرحيل إلى مكان آخر حيث ترشّح الحركة الصهيونية سيناء لهؤلاء المرحّلين من أرضهم. (نشير هنا إلى حديث مبارك حول ما اقترحه نتنياهو في هذا المقام، كذلك ما تردّد عبر وسائل الإعلام نقلًا عن الدوائر الرسمية الإسرائيلية لدفع أهل غزة للنزوح نحو سيناء وهو ما تمّ نفيه لاحقًا كذلك تمّ رفضه رسميًا من جانب مصر).
الحقيقة الرابعة: الدفع نحو تديين الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فها هو وزير الخارجية الأمريكي يعلن أثناء زيارته لإسرائيل (12 أكتوبر) بأنه: يأتي إلى إسرائيل كيهودي مقدّمًا الانتماء الديني على أمريكيّته (نشير في هذا المقام إلى ما جاء على لسان هنري كيسنجر في فيلم جولدا، كيف أنه قال لها إبان حرب أكتوبر إنه يأتي لإسرائيل كوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وأنّ عليها ألا تحرج الرئيس الأمريكي الذي كانت لديه مشاكل داخلية كذلك عدم استغلال يهوديته).
في الوقت نفسه أعلن عدد من أعضاء الكونجرس (في اليوم نفسه) بأنّ ما يجري في الشرق الوسط هو: حرب دينية. إذ إنّ "تديين" الصراع ييسّر الهيمنة التامة. ولعلّ مرجعنا في ذلك نصّ الحيثيات والديباجة التي مهّدت لقانون نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (1995) الذي نصّ على ما يلي: "مدينة القدس هي المركز الروحي لليهودية، كما أنها تُعد مدينة مقدّسة من قبل الأعضاء المنتمين لمعتقدات دينية أخرى"... ويؤكد هذا النص ليس فقط على يهودية المدينة وإنما على أنها المركز الروحي لليهودية... وليسمح القارئ العزيز أن أذكر النص بلغته الأصلية للدقة وللتاريخ: " The City of Jerusalem is the spiritual center of Judaism, and is also considered a holy city by the members of other religious faiths ".
يضفي النص - أردنا أو لم نرد - "الطبيعة الدينية على قرار سياسي"،... الأهم هو أنّ القانون "ذكر اليهودية - اسمًا وبوضوح - دون غيرها من الأديان". وكأنها الأهم والأفضل، وعليه خصّ القدس بأنها المركز الروحي لليهودية تحديدًا. ومجرّد مدينة مقدّسة للعقائد الدينية الأخرى دون أن يسميها. إذن المشروعية والسيادة والملكية لليهودية والباقي ضيوف. واقع الحال فإنّ القانون يكرّس لإسرائيل - وحدها - الحق الديني والحق السياسي في القدس. إنه فخ أتمنّى ألا يتورّط فيه المقاومون أو يستثمره المتشددون العرب.
لحظة انكشاف تاريخية كبرى، تسطّر فصلًا جديدًا في كتاب الصراع العربي الإسرائيلي
الحقيقة الخامسة: ولعلّها من أخطر ما جرى في الأيام الماضية هو الربط بين ما يجري بين إسرائيل وغزة وما بين ما يجري بين أوكرانيا وروسيا، وهو ما أعلنه بوضوح وزير الدفاع الأمريكي في الناتو (في اليوم نفسه). دعك من تناقض الموقف الأمريكي حيال كل من أوكرانيا وغزة إلا أنه يضع المسألة الفلسطينية موضع الارتهان في الصراع الدولي الدائر الآن.
وبعد، إنها لحظة انكشاف تاريخية كبرى، أظنها تسطّر فصلًا جديدًا في كتاب الصراع العربي الإسرائيلي تستهلّه بأنّ السلام القائم لم يكن إلا سلام المشروعات الاقتصادية للنخبة الثروية فقط، وأنّ السلام الحقيقي لا بد أن يكون للجميع، ما يعني "تفكيك بنية الظلم" من: احتلال، تجويع، وحصار، ونزعة تدميرية للبشر والأرض،...، البنية التي تم تشييدها بشكل ممنهج.
عندئذ، فقط، يمكن الحديث عن سلام حقيقي قائم على العدل.
الخلاصة، وحسب دراسة صدرت في 2021، السياسة الإسرائيلية هي سياسة فصامية. وديمقراطية الواجهة التي تعتمرها من أجل الغربيين، تخفي سياسة استعمارية هدفها إزالة فلسطين. وتهميش القانون والحقوق والتطلّعات المشروعة للفلسطينيين، يظلّ مصدرًا دائمًا لعدم الاستقرار في المنطقة. وأنه ليس أمام إسرائيل كما تقول "الإيكونوميست" في عددها الأسبوع الفائت، إلا أن تعمل في خلق شروط الحياة للفلسطينيين.
(خاص "عروبة 22")