يعلون أقام استراتيجيته التي رُوّج لها مطلع القرن الحالي، على أساس أنّ إلحاق الهزائم النفسية والمعنوية بالشعب الفلسطيني وبالأمّة العربية، وترسيخ نظرية التفوّق العسكري الإسرئيلي على مجموع الدول العربية، سيعمل على تشكيل قناعات وسياسيات جديدة تؤدي إلى انحراف الهدف الأصلي "إقامة الدولة الفلسطينية" وتجعله من باب المستحيلات، مما يفتح الباب أمام التعامل مع ما تفرضه تل أبيب من توجّهات كأمور مُسلّم بها لا يمكن تعديلها أو معارضتها، ما يصل في النهاية إلى الإقرار بأنّ إسرائيل صارت أمرًا واقعًا ودولة طبيعية في المنطقة من حقها الدفاع عن نفسها ضدّ ما تعتبره إرهابًا تمارسه بعض المجموعات التي لم تقبل الوضع الجديد.
كلّما زادت غطرسة العدو وتوالت جرائمه، كلّما زاد إصرار الفلسطينيين على المقاومة واسترداد الحقوق
قد تكون استراتيجية يعلون "كيّ الوعي" نجحت في إخضاع بعض الحكومات العربية التي نالت منها الهزيمة النفسية فاختارت الركوع وقبلت بالتطبيع المجاني مع العدو وتماهت مع فرضياته وتصوّراته عن الصراع، حتى بلغ بها الأمر أن تصدر بيانات تدين فيها عمليات المقاومة المشروعة إرضاءً لصديقها الجديد وحلفائه في الغرب.
أما الشعب الفلسطيني فأسقط بصموده النظرية الإسرائيلية، إذ رغم القوة الطاغية لجيش الاحتلال، وسياسات الانتقام والعقاب الجماعي التي يمارسها ضدّ أهل فلسطين لأنهم لا يزالون متمسّكين بحقوقهم، لم تتمكن حكومات الكيان من إلحاق الهزيمة المعنوية بهم، أو دفعهم للاستسلام لما تحاول تل أبيب فرضه، بل بالعكس، فكلّما زادت غطرسة العدو وتوالت جرائمه من اغتيالات واقتحام للمقدّسات واغتصاب للأراضي، كلّما زاد إصرار الفلسطينيين على الثأر والمقاومة واسترداد الحقوق كاملة غير منقوصة.
أمام تلك الحالة من الصمود والاستبسال، تهتزّ سمعة "الجيش الذي لا يُقهر" وتنهار معنويات سكّان إسرائيل الذين فقدوا الشعور بالأمان، وتبدأ عمليات مساءلة للحكومات والأجهزة على فشلها في تحقيق ما وعدت به، بالتوازي؛ وكما تُجدّد الجرائم الإسرائيلية البشعة حالة الكراهية في وجدان الأجيال الجديدة في أمتنا العربية، تُرسخ في ضمائرهم أنّ إسرائيل لا تزال عدوّ الأمّة الأوّل، فتتداعى دعاوى القبول والتطبيع، لتحلّ محلّها عقيدة الرفض وعدم الاعتراف.
لن تفلح استراتيجية "كيّ الوعي" وعمليات الإبادة الجماعية التي يمارسها نظام الفصل العنصري الإسرائيلي في إجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم ومدنهم وقراهم كما جرى في نكبة 1948، فرغم ما تتعرّض له غزّة خلال الأيام الماضية من قصف عنيف سقط فيه آلاف الشهداء والمصابين، يرفض أهل القطاع الاستجابة لدعوات الإخلاء والتهجير، "لن نكرّر ما جرى في النكبة، وما راح نغادر بيوتنا باتجاه الجنوب.. كلّنا فخر بفلسطينيّتنا لآخر نفس"، يقول أحد أهالي غزّة الذي فقد معظم أسرته إثر تعرّض منزله للقصف يوم الجمعة الماضي.
أما سكّان إسرائيل، ومع كل معركة تخوضها المقاومة - مبادرة أو مدافعة - فتتصاعد دعوات البحث عن وطن جديد يوفّر لهم "المأوى الآمن"، بعد يأسهم من تحقيق "الأمان" في تلك الدولة، حدث ذلك بعد عملية "سيف القدس" في 2021، ويتكرّر الآن ولا تزال معركة "طوفان الأقصى" مشتعلة.
"لأوّل مرّة في تاريخ الصراع، أثبت الفلسطينيون للإسرائيليين أنّ الاحتلال أمر مكلف، لدرجة أنهم بدون أسلحة متطوّرة وحديثة خلقوا ميزان رعب للصراع"، وصلت الرئيسة السابقة للجنة استيعاب المهاجرين في الكنيست كروت أفيتال لتلك النتيجة، بعدما تصاعدت معدّلات الهجرة العكسية من إسرائيل، فمع كل معركة تخوضها المقاومة الفلسطينية وتستهدف فيها المدن والقرى الإسرائيلية يتزايد الطلب على الهجرة من إسرائيل.
تشيع عمليات المقاومة حالة الرعب في نفوس سكّان الكيان ما يدفعهم للعودة إلى بلدانهم الأصلية أو الهجرة لبلاد جديدة
عقب عملية "سيف القدس"، نشرت وزارة الاستيعاب الإسرائيلية معطياتها عن الهجرة اليهودية، وفق دراسة أعدّتها، فجاءت النتائج مفاجئة وصادمة، إذ كشفت أنّ ثلث اليهود في إسرائيل يؤيّدون فكرة الهجرة، أمّا معهد "تراث مناحم بيجن" فذهب إلى أنّ 50% من الإسرائيليين توجّهوا أو كانت لديهم النية في التوجّه للحصول على جواز سفر أجنبي احتياطي، بحسب دراسة أعدّها المعهد ونُشرت العام الماضي، فيما أظهر تقرير لصحيفة "معاريف" العبرية، أنّ هناك أكثر من 756 ألف يهودي هاجروا من دولة الاحتلال حتى عام 2020 بدوافع عديدة، منها تدهور الوضع الاقتصادي، وعدم المساواة وخيبة الأمل بسبب تعثُّر التسوية مع الفلسطينيين، فضلًا عن تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية.
سعت إسرائيل على مدار عقود إلى هزيمة الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، ولم تتوقف محاولاتها لدفعه إلى الهجرة والتغاضي عن حقوقه، مستغلّةً في ذلك قوّتها العسكرية المفرطة وضعف وتراخي الحكومات العربية وتواطؤ بعضها وانحياز الغرب لخياراتها، إلا أنّ الشعب الفلسطيني بصموده وعدم تنازله عن حقوقه يفسد في كل مرّة مخطّطاتها، فيما تشيع عمليات المقاومة حالة الرعب والذعر في نفوس سكان الكيان ما يدفعهم إلى اتخاذ قرار العودة إلى بلدانهم الأصلية أو الهجرة لبلاد جديدة، وهو ما سيؤثّر مع الوقت على الطبيعة الديموغرافية للدولة العبرية.
(خاص "عروبة 22")