الخطاب السياسي العربي مسكون برهبة متوهّمة عن قوة إسرائيل، ونفوذها في العالم الغربي، الى درجة تجعلها مثل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو البابوية في العصور الوسطى حين كانت تعين الملوك والحكام وتعزلهم، وحين كان جميع ملوك أوروبا يسعون للدخول تحت حماية الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو تحت مظلة البابوية التي ورثتها. هذه الثقافة التي هيمنت على العقل العربي لأكثر من سبعة عقود قد تكون مخالفة للحقيقة، وقد يكون العكس هو الصحيح تمامًا.
كانت خلاصة ثمانية مجلدات هي موسوعة الصهيونية التي أعدها استاذنا الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمة الله عليه أن اليهود جماعة وظيفية، جماعة يوظفها، ويستخدمها طرف آخر أكبر وأقوى، وأكثر عمقا في رؤيته، وأنها طوال تاريخها تخدم القوى الكبرى المسيطرة، وتستخدم هذه الخدمة لتحقيق أهدافها على المستويات التي تلي الطرف الأقوى الذي تخدمه. فإذا كانت هذه الجماعة الوظيفية تخدم سلطة في دولة معينة، أو حاكمًا معينًا، فهي بذكائها وقدراتها المتميزة توظف هذه العلاقة للتحكم فيمن هم دونه، ولتحقيق مصالحها في شعبه خصوصا المصالح الاقتصادية والمالية؛ لأن اليهود في تاريخهم لم يكن يشغلهم أن يحوزوا السلطة، أو يتولوا الحكم، أو ينشغلوا بالسياسة، بل كانوا حريصين على أن يتحكموا في العوامل التي تتحكم في السياسة، وتقرر مصير العمل السياسي، وهي الاقتصاد والمال.
وهنا أدعي أن العالم الغربي يستخدم إسرائيل أكثر مما تستخدمه إسرائيل، وأن أوروبا وأمريكا تحافظ على وجود إسرائيل من أجل مصالح استراتيجية أكبر وأعمق تأثيرا، وأبعد مدى مما يراه العقل العربي تحت أقدامه. وجود إسرائيل منذ البداية كان ضمن استراتيجية دولية للقوى الغربية في مواجهة المنافسين لها سواء من الكتلة الاشتراكية، أو من القوى العربية الصاعدة. والمحافظة على إسرائيل لأنها تخدم مصالح غربية كبرى، قد لا يدركها التحليل السياسي القصير أو المتوسط الأجل.
ولذلك فإن الموقف الغربي سواء الأوروبي أو الأمريكي مما يحدث في غزة طوال الأسبوعين الماضيين، والذي يمثل خيانة تاريخية لكل القيم والمبادئ والمثل الغربية، ولكل الأعراف والقوانين والنظم التي وضعها العالم الغربي، وفرضها على العالم، سواء ميثاق الأمم المتحدة، أو القانون الدولي الإنساني، أو اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والتي تتعلق بحماية المدنيين في وقت الحرب، هذا الموقف لا يمكن فهمه في ضوء التفسيرات السطحية التي تقول بتحكم جماعات الضغط اليهودية في النظم السياسية، والحكومات في أوروبا وأمريكا.
هذا الموقف الغربي الداعم للفظائع التي تحدث في غزة، والرافض حتى لإدخال الدواء والطعام للمدنيين الذين يتم قصفهم بالطائرات في الأماكن التي تديرها الأمم المتحدة، هذا الموقف لا يمكن أن يكون سياسيا بالمعنى الذي يقول: إن المسؤولين الغربيين خائفون على مواقعهم، ومناصبهم من انتقام جماعات الضغط اليهودية في بلدانهم. الحقيقة أن إسرائيل هي الأداة التي تنفذ الأهداف الغربية في العالم العربي، لأن العقل السياسي العميق في الدول الغربية يعرف ما هي النتائج التي سوف تحدثها الفظائع الإسرائيلية في غزة في مختلف المجتمعات العربية. لأن التجربة التاريخية تقول إن التحولات السياسية الكبرى في العالم العربي ترتبط بالصراع مع إسرائيل، فثورة يوليو 1952 في مصر كانت نتيجة مباشرة لهزيمة الجيش المصري في حرب 1948، وظهور الجماعات الدينية المتطرفة، والارهابية كانت نتيجة لهزيمة 1967. فإعادة إحياء تنظيم الاخوان المسلمين وتحول قيادات مثل خيرت الشاطر من التنظيم الطليعي وهو قمة الاتحاد الاشتراكي الى الاخوان، ومثله انتقال الدكتور كمال الهلباوي من ضابط مخابرات تم فصله في عملية التطهير بعد الهزيمة الى قيادي في الإخوان جاء بعد الهزيمة، وظهور تنظيمات مثل الجماعة الإسلامية، والجهاد وتمددها جاء بعد زيارة السادات للقدس عام 1977 التي تم اعتبارها تسليما لإسرائيل وانكسارا امامها، وكذلك ظهور حركات حماس والجهاد الإسلامى وحزب الله اللبناني، والحرس الثوري، والحوثي جميعها تستمد شرعيتها من مواجهة إسرائيل.
كل هذه التنظيمات والحركات تقوم بدور إعاقة التنمية، وارباك وتشتيت المجتمعات العربية ومنعها من أن تتبنى خططا تنموية طموحة وتحققها، وهذا هو ما تريده القوى الغربية للعالم العربي، واليوم وبعد أن خرجت بعض الدول العربية من حلقة التخلف والركود وبدأت تسلك طريق التنمية المستقلة، وتقدم نماذج عالمية للتنمية الاقتصادية، والازدهار الاجتماعي، والاستقرار السياسي، وبدأت تفكر بصورة مستقلة عن العالم الغربي، ولم تعد تدور في فلكه، أو تتعامل معه من موقع التابع، بل بدأت تبحث عن شركاء آخرين مثل روسيا في مجال التسلح العسكري، والصين في الاقتصاد. بل تجاوزت هذه الدول كل الحدود وبدأت تنحاز لأعداء العالم الغربي وقدمت أربع دول منها طلب الانضمام لمجموعة بريكس، وتم قبول ثلاث منها هي مصر والسعودية والامارات، هذه الخطوة في ذاتها تمثل قمة التحدي للعالم الغربي.
لذلك فإن تحرك الاساطيل لم يكن لمواجهة حماس، وانما لضمان رسم هزيمة للعرب في غزة تكون من الفظاعة الى درجة تؤدي الى إطلاق موجة من التطرف والعنف في المنطقة تربك المجتمعات، ويشتت جهود الدول، وتحول دون الاستمرار في الخطط الاقتصادية المنشودة، وتعيد العالم العربي الى حالة عدم الاستقرار، التي لا يمكن معها تحقيق تنمية أو ازدهار.
("الأهرام") المصرية