ولولا أنّ هذا السؤال صدر عن بعض الشخصيات التي أعرفها جيدًا وأثق في توجّهاتها السياسية، ما كنتُ خصصتُ مقال اليوم للردّ عليه، فليس من حق أحد أن يتكلّم باسم الفلسطينيين الذين يحتاجون، وهم يواجهون وحدهم آلة القتل الوحشية الإسرائيلية/الأمريكية، إلى كل الدعم والمساندة، وليس إلى اللوم والمؤاخذة.
مبدئيًا، انقضى عصر الانتصارات المؤزّرة، فلو أننا عدنا إلى الصراعات المسلّحة التي نشأت سواء بين الدول أو بين القوى السياسية المختلفة داخل الدول، لتبيّنت لنا نسبية حسابات المكسب والخسارة.
اجتاحت الولايات المتحدة أفغانستان لتطيح بحكومة طالبان في عام ٢٠٠١ وأسقطَتها بالفعل، لكن خلقَت لنفسها خصمًا عنيدًا عادت لتجلس معه على طاولة المفاوضات بعد ذلك بنحو عشرين عامًا.
وشنّت روسيا حربًا على أوكرانيا مفتوحة الأهداف، وها هي بعد أكثر من عام ونصف العام تحاول جاهدة الحفاظ على مكاسب المفاجأة الأولى التي حقّقتها بالهجوم على أوكرانيا. واحتلّت إسرائيل قطاع غزة في عدوان ١٩٦٧ ثم انسحبَت منه في ٢٠٠٥ تحت ضربات المقاومة، وهذا ما تكرّر في احتلالها الجنوب اللبناني في عام ١٩٧٨ ثم إجبارها على الانسحاب منه في عام ٢٠٠٠.
مصدر النسبية في حسابات المكسب والخسارة هو التعقّد الشديد في صراعات القرن الحادي والعشرين
وإذا انتقلنا من الصراعات بين الدول إلى الصراعات داخل الدول، نجد من الصعوبة بمكان تقييم نتيجة الصراع السوري على سبيل المثال بعد اثني عشر عامًا من اندلاعه، نعم لم يسقط نظام بشار الأسد ويسيطر على أكثر قليلًا من ٦٠٪ من الأراضي السورية، لكن الدولة باتت مفكّكة من الناحية العملية، والأجزاء التي يسيطر عليها النظام لا يستتب له الأمر تمامًا وهو ملتزم فيها بشراكة مع حليفيه روسيا وإيران.
وفي اليمن بالطبع يمثّل الاستيلاء على العاصمة صنعاء نصرًا كبيرًا لجماعة الحوثيين التي لم تتجاوز نسبة تمثيلها في مؤتمر الحوار الوطني بموافقتها ٦٪ من إجمالي الأعضاء، لكن تبقى أجزاء من الشمال فضلًا عن الجنوب بموقعه الاستراتيچي وثرواته النفطية خارج نطاق سيطرة الحوثيين.
مصدر هذه النسبية في حسابات المكسب والخسارة هو التعقّد الشديد في صراعات القرن الحادي والعشرين بحكم التعدّد الشديد في الأطراف المتورطة في الصراع، والبُعد عن الحروب النظامية وبالتالي بروز دور قوي للفاعلين المسلّحين من غير الدول، فضلًا عن تأثيرات الذكاء الاصطناعي على منظومات التسلّح.
جميع هذه الأسباب تربك الحسابات وتؤدي لتقاطع مصالح الأطراف المتورطة في جزئية معيّنة وتصادمها في جزئية أخرى. وبالتطبيق على ملحمة "طوفان الأقصى" نجد أنّ هدفها الأساسي كان هو التصدّي لتصفية القضية الفلسطينية على الأرض عن طريق المزيد من تقطيع أوصال مدن الضفة الغربية والتوسّع في الكتل الاستيطانية، هذا من جهة، وفرملة الاندفاع في عملية تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية بعد فكّ ارتباط هذا التطبيع بالتقدّم في عملية السلام وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية من جهة أخرى.
وإذا كان من غير المتوقّع أن تؤدي "طوفان الأقصى" إلى وقف الاستيطان، بل ربما أدّت لتسريعه تعويضًا عن الفضيحة العسكرية لإسرائيل يوم السابع من أكتوبر، فإنّ القضية الفلسطينية قد عادت مجدّدًا إلى بؤرة الأحداث. وهذا ليس كلامًا نظريًا، فكثير من الشباب العربي الذي كان قد نفض يديه من القضية الفلسطينية صار يهتم بها ويتابع تطوّراتها ويدعمها وينتقد بشكل واضح ازدواجية المعايير الدولية في التمييز بين الدماء الإسرائيلية والدماء الفلسطينية.
هذا الوعي هو الذي يضمن استمرار القضية حيّة لا تموت، وقد رأينا كيف تراجعَت عواصم غربية مثل فرنسا وبريطانيا عن منع رفع العلم الفلسطيني ومنع المظاهرات الداعمة لفلسطين، وهو إنجاز يعود الفضل فيه للشباب العربي في المهجر ولأصحاب الضمائر الحية من الأوروبيين. والمنطق يقول إنّ التوسّع في عملية التطبيع قد تجمّد لحين إشعار آخر.
وبالنسبة لإسرائيل، فإنّ الهدفين الأساسيين المعلنين لهذا الردّ الوحشي على عملية طوفان الأقصى هما تهجير سكّان قطاع غزّة إلى خارجه، والقضاء على حركة "حماس"، هذا إضافة لهدف ثالث أقل أهمية يتمثّل في استعادة الوحدة الوطنية للدولة اليهودية بعدما عصف بها قانون تعديل صلاحيات الجهاز القضائي.
لم تتمكّن إسرائيل من إخلاء قطاع غزّة من سكّانه رغم هول ما عانى منه أهله على مدار الأسبوعين الماضيين، نعم نزح الآلاف منهم تحت وطأة القصف لكن الكتلة الصلبة ما زالت متمسّكة بأرضها رافضة تكرار سيناريو النكبة، ومن الواجب علينا هنا أن نشير إلى الدور بالغ الأهمية الذي لعبته مصر منذ البداية للتوعية بخطورة التهجير على تصفية القضية الفلسطينية.
"حماس" أعادت بعث القضية الفلسطينية من سباتها وأوقفَت حركة التطبيع وبدأ الحديث مجددًا عن "حلّ الدولتين"
هل وارد أن تتغيّر نسبة المقيمين في غزّة إلى نسبة النازحين منها في حال الاجتياح البرّي الإسرائيلي؟ بلى هو احتمال وارد لكن سيناريو الأرض التي بلا شعب بعيد جدًا عن التحقيق. أما القضاء على "حماس"، فمبدئيًا لا يحتاج أبناء جيل أكتوبر ٢٠٢٣ لوجود "حماس" كي يتمسّكوا بحقهم في تحرير فلسطين، فقد رأوا من إجرام هذا المحتلّ ما يكفي ليجعلهم طُلّاب شهادة في سبيل التحرير. كذلك فإنّ مسألة القضاء على "حماس" كليةً هي الأخرى مسألة غير واقعية، ولقد شهد بذلك توماس فريدمان أحد كبار المحلّلين الأمريكيين الداعمين للكيان الصهيوني عندما ذكر في أحد مقالاته إنه تشاءم من قول مجنّد إسرائيلي إنهم ذاهبون لغزّة من أجل القضاء على حركة حماس "مرة وإلى الأبد" -once and for all-، وأضاف أنه سمع التعبير نفسه في عام ٢٠٠٦ عندما اجتاحت إسرائيل لبنان لاجتثاث جذور "حزب الله".
نعم الخسائر هائلة والتضحيات كبيرة جدًا، لكنّ "حماس" أعادت بعث القضية الفلسطينية من سباتها وأوقفَت حركة التطبيع وبدأ الحديث مجددًا عن ضرورة "حلّ الدولتين" ولو رأى الرئيس الأمريكي چو بايدن أنّ هذا الحل "ليس الآن"، أما إسرائيل فماذا كسبَت غير جماجم وأنقاض ونار متقّدة تحت الرماد؟.
(خاص "عروبة 22")