في فيلم "ناجي العلي" الذي أخرجه المبدع الراحل عاطف الطيب مطلع تسعينيات القرن الماضي، يتناقض مشهد البداية بشكل شبه تام مع مشهد النهاية. ففي بداية الفيلم، تقتحم العصابات الصهيونية قرية الشجرة الفلسطينية عام ١٩٤٨ وهي مسقط رأس الفنان العربي الذي يحمل الفيلم اسمه ويجبرون أهلها من العرب على تركها والنزوح نحو الشمال وهو النزوح الذي انتهى بهم في مخيمات في لبنان.
أما مشهد النهاية، فهو للانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧م التي لم يدركها الفنان الشهيد حيث تم اغتياله قبل اندلاعها بشهور معدودة.
في هذا المشهد، يعكس أطفال الحجارة المشهد الأول، فهم في تقدّم والصهاينة المدججون بالسلاح يتراجعون أمامهم ويعلو في الأفق العلم الفلسطيني بألوانه الزاهية.
يحضرني كلا المشهدين، إذ أطالع خبرًا نشرته صحيفة "معاريف" العبرية مفاده أنّ فنادق الداخل المحتل عام ١٩٤٨م قد ضاقت بالنازحين - الصهاينة هذه المرّة - وأنّ أعداد من تمّ إخلاؤهم من مستعمرات الجنوب أو ما يُعرف بمستعمرات "غلاف غزة" باتوا أكبر من قدرة الحكومة الصهيونية على الاستيعاب والاستضافة.
وأضافت الصحيفة أنّ هناك خطة لإقامة مدينة خيام قرب إيلات - أم الرشراش المصرية - على سواحل البحر الأحمر لاستقبال المستعمرين الذين تم إخلاؤهم من غلاف غزّة والذين يزيد عددهم في "إيلات" لوحدها عن ستين ألفًا.
لا يخفى على من يقرأ الخبر بتمعّن دلالات ما حقّقته المقاومة الفلسطينية في هذا المجال، إذ انقلبت الخيام التي ظلّت لسبعين عامًا وأكثر رمزًا للنزوح الفلسطيني ومعاناة اللاجئين ممن تم تهجيرهم في نكبة عام ١٩٤٨ ونكسة عام ١٩٦٧م، باتت اليوم مكانًا لاستيعاب نازحين صهاينة هاربين من صواريخ أحفاد اللاجئين ورصاصهم.
ولا يجب أن ننسى في هذا المجال أن نحو ثلثي سكان قطاع غزة، تلك البقعة الضيّقة من أرض فلسطين التي باتت رمزًا للمقاومة والصمود هم ممن لجأوا إلى القطاع في أعقاب نكبة عام ١٩٤٨م فكأنهم يذيقون عدوّهم اليوم بعضًا ممن ذاقوه لعقود.
ولا يقف انعكاس الصورة، أو قُل قلبها بشكل تام، عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ما ذكرته مستوطنة صهيونية من أنّ مستعمرة "كريات شمونة" التي تقطنها والقريبة من الحدود اللبنانية - الفلسطينية باتت "مدينة أشباح"، إذ لا يوجد أحد في طرقات المستعمرة التي أخلتها الحكومة الصهيونية أيضًا خوفًا من هجمات المقاومة اللبنانية.
يتذكّر أغلب المصريين وصف "مدينة أشباح" كتعبير دأب على استخدامها المراسلون الصحفيون - لا سيما الأجانب منهم - لوصف مدينة السويس ومدن القناة بشكل عام إبان سنوات ما عُرف بحرب الاستنزاف (١٩٦٧-١٩٧٠م) التي خاضتها مصر ضد العدو الصهيوني في أعقاب نكسة عام ١٩٦٧م والتي كان رد العدو على العمليات العسكرية الموجهة ضد قواته في تلك الفترة هو قصف المدنيين في مدن القناة وفي مقدمتها السويس الصامدة، فكان قرار القيادة السياسية المصرية آنذاك بتهجير أهل تلك المدن إلى الداخل المصري وهو ما استمر حتى عودتهم إلى مدنهم في أعقاب نصر أكتوبر عام ١٩٧٣م.
أما اليوم، وتحت وطأة ضربات المقاومة الفلسطينية، فإنّ من تُهجرهم حكومتهم هم أحفاد أولئك الذين قصفوا أهالي منطقة قناة السويس ذات يوم.
لقد تمكّنت المقاومة، سواء تلك المتمركزة في جنوب فلسطين العربية أو تلك المتمركزة في جنوب لبنان أن تعكس وبشكل شبه تام صورة حرص العدو بل دأب على تكريسها لسنوات طوال منذ تأسيس دولته على أرض فلسطين؛ صورة العربي المشرّد الذي لا يجد له مأوى سوى خيمة لا تقيه قيظ الصيف ولا برد الشتاء. واستبدلت تلك الصورة النمطية بصورة جديدة كان ثمنها آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين؛ صورة لمستعمر صهيوني مذعور مرتعد، يفر خوفًا على حياته من أرض ادّعى ذات يوم أنها موعودة له، وتضيق به الأرض بما رحبت فلا يجد له مكانًا يقيه صواريخ مقاومة أهل البلاد سوى الخيام ذاتها التي طرد إليها شعب فلسطين.
(خاص "عروبة 22")