فمقابل الانحياز الطاغي من الحكومات لإسرائيل، تبلور رأي عام عالمي، يرفض عدوانها على المدنيين، ارتفعت نبرته بعد قصف المستشفى المعمداني الذي قارب عدد ضحاياه الخمسمائة شهيد. ففي بريطانيا شهدت العاصمة لندن تظاهرات عدّة تندّد بالعدوانية الإسرائيلية، كان أكبرها تلك المسيرة الحاشدة التى انطلقت يوم السبت 21 أكتوبر مطالبةً بالوقف الفوري للعدوان.
قبل ذلك أدان أعضاء البرلمان الأيرلندي إسرائيل بصراحة تامة، حتى أنّ أحد أعضائه قاد مظاهرة تحدث فيها بجسارة نادرة عن ممارسة إسرائيل لنوع من الأبارتهيد أكثر بشاعة مما كان سائدًا في جنوب أفريقيا.
وفي فرنسا قامت مظاهرات عدّة تطالب بالحرية لفلسطين كلّها وليس فقط لغزّة المحاصرة، رغم رفض وزارة الداخلية الفرنسية للتظاهر، وهو القيد الذي أزاله تاليًا مجلس الدولة الفرنسي. في هولندا التي طالما نُظر إليها على أنها مؤيّدة لإسرائيل بالنظر للكثرة النسبية لليهود فيها، وكذلك في السويد والدانمرك والنرويج، دول شمال غرب أوروبا التي اعتدنا على عدم اكتراثها بصراعات الشرق الأوسط، خرجت تظاهرات عدّة عبّرت عن الامتعاض نفسه من الهمجية الإسرائيلية، على لسان إعلاميين وأكاديميين ومثقفين.
القضية الفلسطينية تقدّمت خطوات واسعة في معركة العقول والقلوب، لتحتلّ مكانها اللائق في ضمير الإنسانية
أما النائبة الأيرلندية في البرلمان الأوروبي فألقت نصًا رائعًا أدانت فيه ازدواجية النظرة إلى الروح الإنسانية، والتصرّف إزاء الفلسطينيين وكأنهم ليسوا بشرًا. وكانت المفارقة الأكبر من الولايات المتحدة، التي شهدت تظاهرات عدّة، حاصر بعضها "البيت الأبيض"، وأربك بعضها الآخر الحركة في ميدان "تايمز سكوير" في نيويورك، لكنّ أكثرها دلالة قادتها منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام، حيث اقتحم المتظاهرون مبنى الكونجرس، وعبّروا بلغة واضحة ومؤثّرة عن غضبهم من الدعم الأمريكي لإسرائيل بالسلاح، مردّدين: "لا تقتلوا باسمنا"، ما دعا قوات الأمن للقبض على الكثيرين منهم، بينهم 24 حاخامًا.
فضلًا عن ذلك، كان التعاطف هائلًا في وسائط التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات موصوفة بالتأثير، امتلكت من الضمير ما يكفي للتنديد بوحشية إسرائيل، وتسمية سلوكها بجرائم الحرب. فعل ذلك فنانون من طراز مل جيبسون، الذي لم يكتفِ بإدانة إسرائيل بل قال بنهايتها القريبة، مؤكدًا على شعورها بذلك ومدلّلا عليه باتباعها سياسة "الأرض المحروقة"، فهي تدمّر كلّ شيء لأنها سوف تفقد كلّ شيء. ونجوم كرة من طراز البرتغالي كريسيتيانو رونالدو، الفائز بالكرة الذهبية كأحسن لاعبي العالم خمس مرّات، والمعروف عنه مناصرته الدائمة للفلسطينيين وتبرّعه السخي لأهل غزّة في مناسبات عدّة. وأيضًا إريك كانتونا، وهو نجم كرة قدم فرنسي معتزل، لعب محترفًا في صفوف فريق مانشستر يونايتيد في عصره الذهبي، الذي ندّد بسياسة بلاده المنحازة لإسرائيل. من جانبها عبّرت الشابة الصغيرة ابنة المدرب الأسباني الشهير بيب جوارديولا بحسّ إنساني رقيق عن اشمئزازها من همجية إسرائيل وقتلها الأطفال والمرضى، وهو موقف أيّده الأب.
لن أتحدث هنا عن اللاعبين العرب ولا حتى عن الأوروبيين من أصول عربية فهُم كثر، ولكن أثمّن بالذات موقف كريم بنزيمة الذي أفضى إلى مطالبة وزير الداخلية الفرنسية بسحب جنسيته، بذريعة تأييده لـ"حماس" وانتمائه لأيديولوجية "الإخوان المسلمين"، وهو ما ردّ عليه اللاعب، الحائز على جائزة الأفضل في العالم، برفع قضية تشهير.
أصحاب القضية العرب لم يعودوا يؤمنون بها، قدر ما صار الآخرون يؤمنون بها
هكذا يمكن القول بأنّ القضية الفلسطينية تقدّمت خطوات واسعة في معركة العقول والقلوب، لتحتلّ مكانها اللائق في ضمير الإنسانية، كقضية تحرّر وطني من أعتى وأقبح استعمار استيطاني استئصالي.
ولكن يظلّ السؤال: هل يكفي النجاح في تلك المعركة الرمزية لتغيير مواقف الدول الكبرى، وقبولها بالتطبيق الحاسم والفعّال لقرارات الأمم المتحدة حول الدولة الفلسطينية؟. بالقطع لا يكفي، ببساطة لأنّ أصحاب القضية العرب لم يعودوا يؤمنون بها، قدر ما صار الآخرون يؤمنون بها، ولا يبذلون جهدًا في الانتصار لها يبرّر للآخرين تحمّل أية تكاليف لصالح حسمها.
ولعلّ حال العرب مع العالم إزاء المشهد المأساوي الراهن، يشبه سرادق عزاء ضخم أقيم لرجل حسن السمعة، ذهب إليه أهل المدينة كلّهم إيمانًا بقيمته، فإذا بهم لا يجدون أحدًا من أهله يتلقى العزاء فيه، فلم يكن أمامهم سوى الانصراف إلى بيوتهم.
(خاص "عروبة 22")