هذه كلمات وردت في مقال أخير للصديق الكاتب والشاعر السوري منذر مصري، في معرض سرده وتحليله جوانب من تجارب السوريين في العقود الماضية.
كثير من كتّاب وسياسيين ونشطاء سوريين كرّروا الوصف السابق لسوريا الخمسينات في ذات السياق، لكن قلّة منهم دقّقت في الوصف وفي ظروفه التاريخية بمعزل عن مقارنته بما صار إليه الوضع لاحقًا، وفيه يميل كثيرون إلى تجميل الماضي غالبًا مقارنة بما في المعاصر من تدهور أوصل السوريين وبلدهم إلى أتون الكارثة، وهو ضعف في مقاربة الظروف الحقيقية، التي جعلت سوريا، وبدل أن تتقدّم، وتطوّر تجربتها في تحسين حياة السوريين، ودفع الدولة والمجتمع نحو الأفضل، وتحقيق تقدّم في علاقات سوريا ودورها في المحيط العربي والدولي، فإنها ذهبت نحو شيء مختلف، يظهر حاليًا في خلاصات المشهد السوري، وأبرزها دمار شبه شامل في حياة السوريين، فيه ملايين القتلى والمصابين والمعتقلين والمفقودين، وأكثر من نصف السكان نازحون ومهجّرون، وسط انتشار عام للفقر والمرض والبطالة وموت التعليم، وشبه توقّف للأنشطة الاقتصادية، وسوريا بلد مقسّم إلى كيانات أمر واقع يديرها مطلوبون ومرشّحون للمثول أمام المحاكم، ونظامها ظلال لدول محتلّة، ودولة خرجت من دائرة التأثير الإيجابي عربيًا ودوليًا، وصارت في حيّز الدولة الفاشلة، التي ترعى وتدعم الإرهاب، وتنتج وتصدّر الكبتاجون إلى العالم.
تتعدّد الآراء في الأسباب ووصف الظروف، التي أدّت إلى ما صارت إليه حال سوريا والسوريين، ويختلف في الأسباب رجال الأيديولوجيا والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرهم، ولا سيّما في وصف الأسباب وتعدادها وشرحها وصولًا إلى التفاصيل والحيثيات، سواء كانت تتعلّق بالشؤون الداخلية أو الخارجية، وقد تشاركت الاثنتان في دفع الحال السوري والسوريين إلى الكارثة الراهنة.
أدى تزايد دور الجيش والأمن في الحياة السورية إلى تحوّل عميق في الدولة والمجتمع
وممّا لا شكّ فيه، أنّ البحث والكتابة عن طبيعة تطوّر سوريا ونظامها السياسي في عقود ما بعد الاستقلال، يساهمان في الاجابة على أسئلة التراجع والتردي السوري، كلما اتسمت الجهود بالجدية والعلمية والموضوعية، وابتعدت بالتالي عن الأهواء الأيديولوجية والسياسية، التي وسمت كثيرًا من جهود البحث والتفكير السياسي والاقتصادي السوري في العقود الماضية، ولا يحتاج الأمر في ذلك إلى تأكيدات، فالواقع حافل بالأمثلة عن بؤس البحث الجدي في الشؤون السورية، فيما كانت الجهود المختلفة قليلة ومحدودة، وقد ساهمت بعض مقاربات جوانب التطوّر السوري الحرّة والمستقلّة في الإشارة إلى خلفيات التمايز في طريقة ومحتوى التطوّر، وكانت أقرب لجهود بحث جدّي في أسباب ما أوصل سوريا والسوريين إلى الوضع الراهن.
ولد الاستقلال السوري في العام 1946 وسط جملة معقّدة من الظروف. فيها أنّ دولة الانتداب الفرنسي خارجة "مهزومة" من حرب عالمية، والعالم يتّجه إلى نظام جديد، تشكّل تصفية الاستعمار القديم ومنه الانتداب أحد ملامحه، والقوى الكبرى تعيد رسم ملامح سيطرتها على العالم، فيما بدأت سوريا تشكيل نظام جديد، لكنه ضعيف، وغارق في التباسات سياسية واقتصادية واجتماعية، وبدل أن تتّجه الجهود إلى تكاتف وتشارك النخب، تصاعدت الصراعات بين الشخصيات والجماعات السياسية، التي اختلطت ملامحها في ثلاثية الشعبوية والصوتية والسعي إلى الغلبة، وتم في إطار الأخيرة (وفق ما فعل حزب البعث وغيره) اللجوء إلى الجيش والأمن المؤسّستين الأكثر تنظيمًا وعددًا وتمويلًا، ولم تكن التباسات واختلاطات الأوضاع والبنى الاقتصادية والاجتماعية، أقل ترديًا وتدهورًا من شقيقتهما في المجال السياسي.
لقد مهّدت الحالة العامة، ليس إلى وقف التطوّر الطبيعي في الدولة والمجتمع نحو الأفضل فقط، بل دفعت إلى انسداد في تطوّرهما، وأخذ الانسداد يتراكم على نحو سريع، محضّرًا الوضع إلى انفجار، لعب فيه الجيش والأمن دورًا رئيسًا في السلطة سواء بصورة مباشرة أو عبر انتسابه وتمثيله لجماعة سياسية، أخذت ملامحها تتطوّر وفق خطين، خطها الأول الاعتماد على غالبية من أبناء الريف، والثاني تصعيد وجود ودور التكتلات الأقلوية سواء في الجيش أو في الأحزاب والجماعات السياسية، ولعلّ المثال الأكثر وضوحًا مكرسًا في حالتين، الأولى عبر وفد ودور ضباط الجيش السوري في الذهاب إلى القاهرة من أجل الوحدة مع مصر في 12/1/1958 وأغلبهم من أبناء الريف، والثانية جسّدها تشكيل اللجنة العسكرية البعثية بالقاهرة أيام الوحدة من أبناء الريف ممثّلي الكتل الأقلوية، وجاء منها وعن طريقها أبرز قادة النظام بين عامي 1963- 2000.
حال سوريا اليوم نتيجة طبيعية لمشاكل وأخطاء فترة اعتبر كثيرون بعض ما حدث منها تعبيرات "إيجابية"
أدى تزايد دور الجيش والأمن في الحياة السورية إلى تحوّل عميق في الدولة والمجتمع، مقرونًا بتصعيد دور أبناء الريف وتنامي الكتل الأقلوية، إلى بدء عسكرة الدولة والمجتمع، وجعل السلطة في يد العسكريين الذين تحوّل رأسهم إلى ديكتاتور فاسد ومفسد على رأس النظام، قبل أن يعمّم ارتكاباته وجرائمه في كل المجالات، بهدف تكريس نفسه في السلطة، والتي تطلّب تثبيتها في مرحلة السبعينات أربعة من سياسات مفصلية: شملت إخضاع النخبة في اختصاصاتها جميعًا عبر وسائل الترغيب والترهيب المشدّدة وخاصة في التعامل مع السياسيين والمثقفين، ثم إشاعة سياسة "فرّق تسد" في كل مستويات المجتمع والدولة، حيث الكل ضد الكل، لكنهم جميعًا في حضن النظام، واتباع سياسة التقاسم الطائفي وفق سلّم حصص لكل طرف، وسط تفضيلات شد العصب الطائفي حول رأس النظام وفي المفاصل الرئيسية، ثم اتباع سياسات شعبوية ذات شعارات فارغة، دون أن يكون لها تطبيقات في الواقع ومنها شعارات حزب "البعث" في الوحدة والحرية والاشتراكية ومقاومة إسرائيل وتحرير فلسطين.
لقد آن لكثير من السياسيين والكتّاب والنشطاء، أن يدقّقوا في مقولاتهم عن "الديمقراطية الذهبية" في سوريا الخمسينات سواء في سياق وصفٍ يعتقدونه حقيقة عن تلك الحقبة، أو لمقارنة مخاصمة مع ما صارت إليه حال سوريا اليوم، والتي كانت نتيجة طبيعية لمشاكل وأخطاء تلك الفترة، والتي اعتبر كثيرون بعض ما حدث منها، أنها تعبيرات "إيجابية" عن حياة سورية مضت، انتقلنا لاحقًا منها من سيّء إلى أسوأ حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
(خاص "عروبة 22")