الإرهاب سلوك إجرامي متجذر في النفس البشرية منذ القدم، وهو نزوع عدواني اتجاه الفن والحياة بشكل عام، يروم صناعة للموت والدمار.
تأسيسًا على ما سبق، نتوقف هنا عند صورة الظاهرة بعيون سينمائية مصرية، مع بعض النقاش والتحليل لأهم الأعمال الدرامية التي عالجت ظاهرة التطرّف الديني العنيف، في تمثّلاته الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
شهدت مصر أواخر سبعينيات القرن الماضي بزوغ نجم الجماعات الدينية المتطرّفة التي حظيت بنوع من الدعم الغير المباشر من طرف حكومة الرئيس الراحل أنور السادات. وجاء الدعم من أجل إحداث "توازن قوى" في مواجهة التكتلات الاشتراكية المتمركزة في الجامعات المصرية، والمنتشرة بين الأوساط الثقافية والفنية. بل وصل الأمر إلى إعلان السادات نفسه "رئيسًا مسلمًا لدولة مسلمة". في إشارة واضحة إلى تبني الدولة المصرية للخطاب الديني.
قدّم السادات نموذجًا جديدًا للحكم، حيث أعلن قيام "دولة العلم والإيمان". الأمر الذي نال استحسان تيارات الإسلام السياسي، خصوصًا بعد المساندة التي حظي بها صانع القرار الأول من طرف رموز دينية وعلمية بارزة، أشهرها الشيخ متولي الشعراوي والدكتور مصطفى محمود.
امتدت "الهدنة" بين النظام الحاكم والجماعات الدينية لسنوات، وهي الهدنة نفسها التي دفع ثمنها غاليًا المشهد الفكري والفني المصري، حيث اتجه المتطرّفون لتحريم الفن بشكل صريح.
استُخدمت سلطة المال لإغراء مجموعة من فنانات الصف الأول لإعلان اعتزالهن وإشهار التوبة للتكفير عن "خطيئة" الفن. تمّت مهاجمة المسارح ودور السينما، وبثّ الرعب في نفوس الفنانين عبر التهديد والوعيد بالتصفية الجسدية، مما أدى إلى موجة رقابة صارمة وتكميم لأفواه المعارضين للفكر المتشدّد.
ورغم الحصار الخانق المفروض على السينما المصرية آنذاك، استطاعت العديد من الأعمال السينمائية المتميّزة أن ترى النور وتعالج بشجاعة الظاهرة الدينية المتطرّفة، رغمًا عن "سيف" المتشدّد ومقصّ الرقيب.
رفضت الرقابة عددًا من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي ناقشت تفشي الفكر المتطرّف في أوساط المجتمع المصري، وجاء الرفض في سياق المقاربة الأمنية الحذرة التي تبنّاها النظام الحاكم آنذاك لتفادي أيّ استفزاز للجماعات المتشدّدة أو مواجهة معها.
قدّم السيناريست عبد الحي أديب سنة 1984 سيناريو لفيلم "رجل من الحيّ السادس" يتطرّق فيه لتغلغل الجماعات المتطرّفة داخل مؤسسات الشرطة والوزارات السيادية، وسيطرتها على النسيج الطلّابي في الجامعات. رفض الرقيب سيناريو الفيلم، في مذكّرة من ستين صفحة، شملت ما يقارب 273 ملاحظة!
طال مقصّ الرقيب أيضًا سيناريو مسلسل "العائلة" للكاتب وحيد حامد منتصف الثمانينات، لتتمّ الموافقة عليه لاحقًا وعرضه سنة 1994. لم تقتصر موجة تكميم أفواه صنّاع الفن على الرفض المباشر للأعمال السينمائية والتلفزيونية، بل تجاوزت ذلك لفرض تعديلات على أي شخصيات أو سياقات درامية قد تشير من قريب أو بعيد للجماعات المتشدّدة.
اضطر المخرج محمد راضي في فيلم "موعد مع الرئيس" لتغيير شخصية عضو مجلس الشعب الذي استغلّ سلطته ونفوذه لظلم المواطنين والاستيلاء على أراضيهم، من شخص ملتحي منتمي لجماعة دينية، إلى سياسي فاسد، دون الإشارة إلى خلفيّته الأيديولوجية. وواضح أنّ الهدف من التغيير تفادي منع عرض الفيلم أو التشويش عليه.
كان اغتيال السادات على أيدي المتطرفين الإسلاميين بمثابة تحوّل مفصلي في علاقة النظام الحاكم بالجماعات المتطرّفة، حيث تغيّرت لهجة النظام اتجاه "الجماعة"، فتمّ إعطاء الضوء الأخضر للمفكّرين والنقّاد وصنّاع السينما لمهاجمة الفكر المتطرّف، وشهدنا موجة من الأعمال الفنية المهمة التي تطرّقت بجرأة وعالجت بشيء من الموضوعية ظاهرة التطرّف الديني، والذي كان يُصطلح عليه من قبل الإرهاب باسم الدين، ولكن ابتداءً من 2017، وبقرار صادر عن هيئة الأمم المتحدة، أصبح الجميع يتحدث عن ظاهرة "التطرّف العنيف".
تأجّجت موجة الاغتيالات السياسية نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات والتي طالت عددًا من المسؤولين ورجال السلطة ورواد الفكر والثقافة، لعلّ أشهرها محاولة اغتيال وزير الداخلية والأديب نجيب محفوظ، واغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب والكاتب فرج فودة. وأدت هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية المشحونة إلى تنامي شعور عام بالغضب والسخط اتجاه مرتكبي هذه الأعمال الإجرامية.
ونعتقد أنّ سينما الثمانينات قد تعاملت باستحياء مع الظاهرة، من خلال إشارات حذرة وطروحات ملتوية عن ماهية التطرف الديني ومسوغاته وأهدافه. على سبيل المثال، قدّم فيلم "بيت القاضي" سنة 1984 للمخرج أحمد السبعاوي والسيناريست عبد الحي أديب، صورة مبتورة عن الجماعات المتطرّفة، حيث تمّ التركيز على تقديمهم كجماعة كارهة للنساء، تستمد نظرتها العدائية ضد المرأة من الأيديولوجية الدينية. يحثّ بطل الفيلم نور الشريف أعضاء الجماعة على استخدام دعوتهم لإحقاق العدل والمساواة بين الناس، وتوجيه غضبهم نحو السلطة الفاسدة، وتواجه دعوة نور الشريف بالتجاهل والرفض من قبل الجماعة، حيث يشنّ زعيمهم هجومًا شديدًا على النساء ويتهمهن بنشر الفتنة والفساد الأخلاقي، ما دامت المرأة في المخيال الديني المتشدّد هي سبب البلاء والغضب الإلهي على البشر.
لا ننكر أهمية المعالجة الدرامية للتمييز والعنف ضد المرأة في أدبيات التطرّف الديني، لكن الفيلم كان فرصة مهدرة لتسليط الضوء على الأهداف السياسية والسعي للاستيلاء على السلطة من طرف "الجماعة".
يلاحظ المتتبع للمشهد السينمائي المصري بداية التسعينيات تحوّلًا مفصليًا في نوعية الأفلام المقدّمة في تلك الفترة المرتبكة سياسيًا وأمنيًا في مصر. حيث تمتع الكتّاب والمخرجون بمساحة حرية أكبر في طرحهم لظاهرة الإرهاب. بل يجوز القول إنّ السياسي كان فاعلًا رئيسيًا ومحرّضًا على تقديم صورة واقعية لحقيقة الصراع الدامي بين السلطة والمجتمع من جهة، والجماعات الإسلامية المسلّحة من جهة أخرى.
فيلم "الإرهاب والكباب"، إنتاج سنة 1992 من تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، كان معالجة كوميدية للظاهرة. وقد اتخذ صنّاع العمل من الإرهاب مدخلًا إبستيمولوجيًا لطرح الجذور الاجتماعية والسياسية للعنف، دينيًا كان أو غير ديني. لقد كانت الكادرات السينمائية للفيلم شخصيات رئيسية تؤثث الفضاء العام للقصة إلى جانب الشخصيات، كما كان "مجمّع التحرير" صورة مصغرة للمجتمع المصري بكل تراتبيته الطبقية واختلافاته الفكرية.
شخصيات مسحوقة اجتماعيًا تعاني من استبداد البيروقراطية - شخصية الأستاذ أحمد - وأخرى تعاني القهر والتسلّط وتلاحقها وصمات عار أخلاقية ودينية كشخصية هند وشلبي. لقد رفع المواطنون السلاح في وجه الحكومة ليس خدمةً لأجندة أيديولوجية معينة ولكن احتجاجًا على الظلم الاجتماعي والتهميش المُمَنهج.
قاوم الرهائن والخاطفون على حد سواء إحدى المسببات الرئيسية للعنف والتطرّف والفوضى، وقد تناول هذا العمل السينمائي الأبرز، الفعل العنيف صدفة أثناء محاكمته الأخلاقية للسلطة، وهي صدفة لا تتنافى إطلاقًا مع الحبكة الرئيسية للقصة التي تهدف إلى إلقاء الضوء على أصل العنف، ومفادها أنّ المتديّن المتطرّف مواطن مسحوق أولًا.
فيلم "الإرهابي" من تأليف لينين الرملي وإخراج نادر جلال، يعالج الفيلم عدة قضايا ذات صلة بظاهرة التطرّف الديني، ومنها موقف المتطرّفين من المرأة وصورتها في المخيال الديني الراديكالي، وقضية التمويلات الخارجية للجماعات الإرهابية في الداخل المصري.
نجح مؤلف السيناريو إلى حد كبير في فضح الازدواجية الأخلاقية للمتشددين في تعاملهم مع النساء، حيث يتعامل "أمير الجماعة" بطريقة تحقيرية مع المرأة، وهي طريقة تجرّدها من إنسانيتها لتخسف بها إلى مرتبة الحيوان.
قدّم الفيلم بديلًا دينيًا وسطيًا للفكر المتطرّف، من خلال شخصيات عائلة الدكتور عبد المنعم المتشبّعة بالقيم الدينية الوسطية المعتدلة، والمتسامحة مع الآخر المختلف - شخصية هاني المسيحي - في إشارة رمزية إلى أنّ السبيل الوحيد للخلاص من فوضى الراديكالية الدينية هو اللجوء إلى الاعتدال والتسامح والتعايش بين جميع مكوّنات المجتمع المصري بغض النظر عن الخلفيات الدينية والمذهبية.
يعود الثنائي شريف عرفة ووحيد حامد سنة 1995 بفيلم من بين أكثر الأفلام قوةً وجرأةً على الساحة. "طيور الظلام" جرعة مركّزة من الرسائل السياسية وفضح للممارسات اللاأخلاقية لزمرة الساسة الفاسدين.
سياسيون فرّقتهم التوجهات الأيديولوجية وجمع بينهم الفساد والسعي الميكيافيلي الحثيث للاستيلاء على السلطة خدمةً لمصالحهم الشخصية الضيقة، أو خدمةً لأجندات خارجية تحاول العبث بالاستقرار الأمني للبلاد. كما يطرح الفيلم معضلة زواج المال بالسياسة من خلال شخصية فتحي وعلي، شخصيتين تُجسّدان حدة المواجهة الأيديولوجية بين قطبَي الصراع.
يضع المخرج البطلين في كادر رئيسي يؤطر الحوار الدائر بينهما حول المسوغات الأخلاقية لمشروعهما الأيديولوجي. الهدوء المخيف والإضاءة الخافتة للكادر توحي بتلاشي الضمير لدى فتحي وعلي، يحسم فتحي الجدال. ويُعتبر أن الهدف من السباق المحموم بين الفرقاء الأيديولوجيين هو إيجاد "فرصة على المقاس" للوصول إلى السلطة.
هي محطات متباينة في العناوين والمضامين تلك التي تميّز أداء وتفاعل السينما المصرية مع ظاهرة التطرّف العنيف، على الأقل حتى ليلة أحداث 2011، لأنّ الأوضاع ذات صلة بتعامل أهل الفن، بما في ذلك أهل الفن السابع، مع قضايا العنف والتطرّف تعقدت أكثر بعد هذه المحطة، سواء في مصر أو في المنطقة العربية، وهذا موضوع آخر.
(خاص "عروبة 22")