بصمات

"نزع السحر" عن المشروع الحداثي الغربي!

من منظورٍ تاريخيّ، ارتبط مفهوم "نزع السحر" عن العالم، بالمفكّر الألماني ماكس فيبر (Max Weber)، وإن كان هناك من يجذّر للمفهوم عند فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche)، حيث إنّ المفهوم حينها كان أقرب إلى الدلالة على نزع الطابع اللّاهوتي أو الطقوسي الديني عن المسار التاريخيّ البشريّ. وقد عمّق هذا المبحث الذي ارتبط بالأساس بمفهوم العَلمنة، مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet)، في إطار عمله على وصف الانتقال من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، وهو الانتقال الذي أفرز لاحقًا، وخصوصًا خلال ثمانينيّات القرن الماضي، العديد من القراءات التي أعادت بلورة المشروع الحداثيّ في سياقه التاريخيّ والدينيّ والسياسيّ الغربيّ.

على الرَّغم من أنّ هذا التوجّه النقدي الذي استطاع أن يُزيح لِماط "الأسطرة" والتمجيد الذي رافقَ المشروع الحداثيّ عن باقي العصور، إلّا أنّه أوجد في المقابل أرضيةً مختلفةً في التعاطي مع المشروع الحداثي الغربي؛ وهو تعاطٍ مختلف مقارنةً بما عهدناه عن المشروع الحداثي الغربي، خصوصًا في السياق العربي، كأنّنا أمام مرحلةٍ شبيهةٍ بانهيار العصر الوسيط أمام العصر الحديث؛ مرحلة تعلن عن تبلور نظامٍ عالميّ جديدٍ يفقد من خلاله إحدى مقوّماته السابقة لصالح اكتساب أخرى.

تبنّي المشروع الحداثي الغربي لم يترك مساحةً وسطى بين حقل التجربة العربية وأُفق المشروع الغربي المأمول

تجدر الإشارة إلى أنّ عملية استلهام مفهوم "نزع السحر" هنا؛ المُراد به محاولة بسيطة لرصد التعاطي العربي الراهن مع المشروع الحداثيّ الغربيّ، إذ يُلاحظ اليوم نوعٌ من تصاعد موجات النّقد اتجاه المأمول الحداثي، جرّاء ما يعيشه اليوم العالم من صراعاتٍ وحروبٍ ودماءٍ لا ترقى إلى مستوى الانتظار الأخلاقي الحداثي. وبما أنّ الوضع العربي وضعٌ ضعيفٌ ومُتفكّكٌ، فإنّ التماس الجانب النقدي في شقّه السلبي صار هو الأساس، مع أحقّية هذا النقد في بعض جوانبه، لكن شريطة ألّا يرسم بُعدًا حدّيًا مُتطرّفًا ينفي عن المشروع الحداثي أحقّيته التاريخية على الإنسانية جمعاء.

إنّ عملية الانعتاق من أسطرة المشروع الحداثيّ الغربيّ، جرت وِفق سياقَيْن غربي وعربي، حيث مثّل صعود الأنظمة السياسية الشمولية والفاشية الذي توّج بحربَيْن عالميتَيْن وحربٍ ثالثةٍ باردةٍ في السياق السياسي الغربي، مراجعةً نقديةً مهمّةً أعادت تحجيم الحداثة وربطها بسياق تبلورها التاريخي والديني. فقد كان كلّ من ماكس فيبر وكارل شميت (Carl Schmitt) وكارل لوفيث (Karl Löwith) وألكسندر غوتليب بومغارتن (Alexander Gottlieb Baumgarten) وإتيان جيلسون (Étienne Gilson) وتشارلز تايلور (Charles Margrave Taylor)، وآخرون، نموذجًا لتنامي هذا السجال.

المشروع الصهيوني هو امتداد للمشروع الغربي حيث تخبو عبرَه كلّ موازين القوى لصالح الهمجيّة والعنف

في حين تأخر السياق العربي نسبيًّا في نزع الأسطرة عن المشروع الحداثيّ الغربيّ، وربّما قد يكون ذلك راجعًا بالأساس إلى بدايات التعامل مع المشروع الحداثي الغربي، إذ إنّ تبنّي المشروع الحداثي الغربي لم يترك مساحةً وسطى بين حقل التجربة العربية في سياق صيرورتها التاريخية وأُفق المشروع الغربي المأمول، لأنّ طمس هذه المسافة خلق وهمًا بإمكانيّة استلهام المشروع الحداثي الغربي بغضّ النظر عن الاستلاب التاريخي للوضع العربي.

من هنا يمكننا القول إنّ:

- محاكمة المشروع الحداثي الغربي عن مآلاته اللاإنسانية أو القيمية هي محاكمة مُضلّلة في بعض توجّهاتها المتطرّفة، ما دامت تقوم على استنتاجٍ بُعديّ كان مُغيّبًا في بدايات التعاطي مع المشروع بشكلٍ مُجمل، ومن هنا فإنّ التضليل هو مسألة تتعلق بالآخر الذي رفع المشروع الغربي إلى مرتبة الأسطرة والنمذجة. صحيح أنّ الغرب زكّى هذا المسار قَصْدَ خدمة أجنداته العنصرية الثقافية والدينية والسياسية، لكنّه يظلّ انزياح كائنٍ في طبيعة البشر أيًّا كان.

- رؤيتنا النقدية تجاه المشروع الحداثي الغربي راهنًا يتحكّم فيها بالدرجة الأولى، بمعنى ما، تغوّل ووحشية المشروع الصهيوني بما هو امتداد للمشروع الغربي، حيث تخبو عبرَه كلّ موازين القوى لصالح الهمجيّة والعنف الإسرائيليَيْن، فنكون أمام رؤيةٍ أخلاقيةٍ تجاه سياسة دولةٍ لاأخلاقية (التوجّه الصهيوني) يُزكّي وجودها الوجه الآخر للمشروع الغربي. فالأولى تسعى لإيقاظ الحسّ الأخلاقي للمشروع الغربي، لأنّها عاجزة عن فرضه، والثانية تُؤخّر أو تُغيّب المطلب الأخلاقي إلى حين تَحقُّق الآمال السياسية والدينية.

نعيش اليوم تردّي الأمر الأخلاقي والكَيْل بمكيالَيْن من طرف الغرب

- مسألة التعاطي مع المشروع الغربي اتخذت طابعًا سلبيًا نوعًا ما، وسواءٌ عبر إضفاء السحر عليه ورفعه للنموذج السحري، أو رفضه بدعوى دينية وإيديولوجية، فإنّ المشروع ظلّ حبيس الرؤية المتطرّفة التي تُغيّب الذات لصالح المشروع الحداثي، أو تحضّر الذات لترفض النموذج الحداثي، أو تحاول أن تجد أرضيةً تُبقي على مقوّمات الذات مع استلهام آليات المشروع الحداثي، ممّا أفقد الرؤية النهضويّة العربيّة "مُحايثةً" تخصّ تجاربها التاريخيّة، وكيف يمكن أن يُحدّد حقل تجاربها أفقها الانتظاري المأمول.

التوجّه النقدي تجاه المشروع الحداثي الغربي يظلّ مقبولًا أمام ما نعيشه اليوم من تردّي الأمر الأخلاقي والكَيْل بمكيالَيْن من طرف الغرب، لكنه نقدٌ أعرجٌ ينفتح خارج أبواب الأنظمة السياسية والأوضاع الداخلية والإقليمية العربية، من دون أن يُقدّم في المقابل الفسحة النقدية نفسها تجاه الذّات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن